الثورة والأدب في إيران


الثورة والأدب في إيران

رضا براهنـي
[مجلة الشرق، فبراير 2006] 

ترجمة : الدكتور أحمد موسى

لقد أحدثت الثورة الإسلامية تغييراً في القيم، على صعيد الأدب وتاريخه، لذا ينبغي طرح هذا التغيير كظاهرة في ذاتها ووجودها، قبل إضفاء التفاسير الإيجابية والسلبية والأخلاقية وغير الأخلاقية عليها. إن الدراسات والكتب والأبحاث أولت اهتماماً بالغاً لظاهرة كانت موجودة في إيران قبل عشرين سنة، وهي ظاهرة "أزمة الريادة الأدبية في إيران". لم يكن الهدف هو معرفة هذه الظاهرة في وجود أشخاصها، وحتى في وجود الشعب والحكومة. بل أزمة الريادة الأدبية ترتبط بظواهر أدبية أخرى، وبتاريخ الأدب وبالأنواع والأجناس والأولويات الأدبية، ولا ترتبط هذه الأزمة بشكل مباشر، بالأشخاص الذين يخلقون الأدب أو بالأقطاب المتنوعة المعارضة والموافقة، مثل الحكومة والشعب. إذن فأزمة الريادة الأدبية تشمل الظاهرة برمَّتها، وتشمل الأدب الذي أنتجه الموالون وأيضاً الأدب الذي أنتجه المعارضون.
  تبرز هذه الأزمة حتى مع وجود الإيديولوجيات الحاكمة في عهدها، لأن أهميتها أكثر بكثير من الوجوه الإيديولوجية. لكن أزمة الريادة الأدبية هي بمثابة دم يسري في جسد الأثر كله، وهو المحدد النهائي لماهية الأثر. فالأزمة ترتبط بتغيير القيم.
  لأجل أن نحلل أزمة الريادة الأدبية التي حكمت الأدب الإيراني خلال عشرين سنة الماضية، يمكن الرجوع قليلاً إلى الوراء ودراسة عدة مسلّمات أصلية ومعطيات أساسية في الأدب بعد الثورة الدستورية، وحتى ثورة فبراير 1979. فبعد أن أتاحت لنا الثورة الدستورية المليئة بالتناقضات التعرف، بشكل نسبي، على الثقافة الغربية واختبارها والتجاور معها والاستئناس بها، وظهور حوار جديد يدعى الغرب وتركيبه مع تقاليدنا في إنتاجات مبدعينا. فقد وضعنا قدمنا على أرضية، أسميها أنا "أرضية الموت". لكنه الموت بمعنى خاص. فقد كنا نعتز بثقافتنا وتقاليدنا وبوحدتنا. فحين تجاورنا مع الغرب انتابنا إحساس أننا جلسنا في سفينة سليمة وآمنة من الطوفان والزلازل. لكن هذه السفينة لم تكن فقط منكسرة، بل رائحة الموت تنبعث من كل جنباتها.
الخصوصية الأساسية لأدبنا بعد الثورة الدستورية هي التفكك والموت...
  لماذا يبدو كتاب "رند و رند" [خزعبلات] لـعلى أكبر دهخدا مجزئاً قطعة قطعة ؟ فثمة سبب أكبر من الكتابة الصحفية الاجتماعية والسخرية الاجتماعية وذوق ومؤهلات المؤلف.
  "يكى بود يكى نبود" [كان يا ما كان] لماذا تبدو مجزئة قطعة قطعة ؟ رغم أن جمالزاده قاص ودهخدا كاتب صحفي فإن لغتهم تتشابه أحياناً. رغم التفاوت في نوع وجنس العمل، ورغم الاختلاف في أفكار الرجلين، لماذا كلاهما يكتب بشكل مجزء. ولماذا يعشق نيما يوشيج في ديوانه "افسانه" [الخرافة] وفي قطعاته الأخرى ذاك الشيء "الفاني" أو "الزائل"...أيعني أن الإنسان قابل للمعرفة والإحساس فقط في إطاره الفاني ؟ لماذا نسخر من الفناء والزوال ونستلذ به في الآن نفسه ؟ لماذا يرى "قربانعلى"، الشخصية الرئيسية في قصة جمالزاده، نفسه مجازاً بالارتباط بزوجته-فقط- بعد موتها. الشيء نفسه نلحظه في جميع قصص صادق هدايت تقريباً، بدءاً من "سايه روشن" [الظل المضيء]، و"سه قطره خون" [قطرات الدم الثلاث]، و"داش آكل" [داش آكل]، و"زنى كه مردش را ﮔم كرده بود"، [المرأة التي كانت قد أضاعت زوجها]، وفي قصة "بوف كور" [البومة العمياء]، بشكل أكبر ؟ لماذا امتزجت جمالية كل هذا بالموت، والتجزيء والتعفن ؟ لماذا يبدو ذهن طفل المدرسة في قصة "بعد از ظهر آخر اييز" [مساء آخر الخريف]، لـصادق ﭼوبك مشتتاً بهذا القدر ؟ ولماذا لا يكتسي العمل جاذبية فنية إلا بعد تقطيعه وتجزيئه ؟ ولماذا نحن نحب النثر المجزأ والمضطرب لقصة "غربزدﮔﻰ" [الاستغراب] ؟ لماذا أطول شعر لـفروغ فرّخ زاد هو عبارة عن قطعات وليس منظومة واحدة، ولماذا نفضل هذا النص على غيره من المنظومات في عصره، ولماذا نحبه، بالرغم من أن التشتت وعدم الوحدة وصوت الموت ينبعث من كل سطر من سطوره ؟ لماذا ولماذا ولماذا ...؟
ما يميز فننا ليس أن بعضه أصيل وآخر معاصر. لأن أدبنا الجدِّي لا يقبل التقسيم إلى كلاسيكي ومعاصر. بل إن السبب الأساس يكمن في أننا خطونا خطوة في عصر أزمة الأذهان مع الثورة الدستورية، وهذا أمر ينطبق على الأصالة والمعاصرة على حد سواء. صادق هدايت ونيما يوشيج وأحمد شاملو وفروغ فرّخ زاد وأخوان ثالث، سواء كانوا ممثلين للأصالة أو المعاصرة، فهم غرقى في الأزمة. فكلٌ من الأصالة والمعاصرة مختلطة بالموت.
 هناك البعض من يريد أن يجعل من عقد الأربعينيات عقداً للمحادثات والحوارات الجديدة. يجب أن أقول في البداية أنه لا بد من رد يد تلك المحادثات الوهنية التي أتت بـ 19 أغسطس، ثم إنهم ينوون أن يجعلوا من هذا العقد عقداً كبيراً في تاريخ الثقافة الإيرانية. الجميع يعرف ذلك العقد، ولمعرفة أفضل يمكن الرجوع إلى عشرات المجلات والصحف والدوريات ومئات كتب الشعر والقصة والمسرحية والترجمة والنقد الأدبي. فأدباء هذه الفترة لا يشبه بعضهم بعضاً. فكلٌ من صادق چوبك وجلال آل احمد وإبراهيم گلستان وسيمين دانشور وأحمد شاملو وأخوان ثالث وفروغ فرخ زاد ونيما يوشيج، هذا الأخير تُطبع كل أعماله بعد الموت، كلهم يشتركون في اختلاف بعضهم عن البعض. لكن ذاك العنصر المشترك الأساسي يطبِق عليهم جميعاً، ألا وهو ذاك المرض المحتوم الذي لا دواء له، ذاك التخبط في دوامة التناقضات الناتجة عن أزمة الريادة الفكرية وأزمة الأشكال والأجناس. فنحن نعيش في زمن التشتت الثقافي. وإذا كان "التشتت" شيئاً سلبياً ما كان ليخلق كل هذه الآثار. كانت هنالك بعض الآثار السطحية التي استعارت بعض الأشياء من صورة التشتت، لكنها في عمقها افتقدت إلى الألم وإلى التشتت. بشكل عام، يريد هذا التشتت أن يصل إلى الأوج، ويُجبر للوصول إليه على الخضوع لتغييرات جادة. توجه أدب تلك الفترة لاستقبال الثورة.
  أتاحت هذه المحادثات تغييراً كيفياً للغرب عوض تعريفه جغرافياً وإيديولوجياً، وأدت إلى ظهور الفكر النقدي وإظهار الآراء التي على أساسها يتم تقييم الأدب المعاصر والأدب القديم كذلك، ظهور شعر ورواية المرأة (فرخ زاد – دانشور)، ظهور المسرح (بيضايى ورادى وساعدى وفرسى وسلحشور)، ظهور جيل جديد من الشعراء (آتشى ورويايى وآزاد ونيستانى واحمدى)، ظهور عدة روايات أصيلة مبنية على الألم والتشتت ("سفر شب" [سفر الليل] لـبهمن شعله ور، و«سنگ صبور» [الحجر الصبور] لـصادق چوبك، و"سووشون" لـسيمين دانشور، وآثار أخرى لكتاب آخرين)، تثبيت نسبي لجنس الرواية التي كانت في طور الحركة بين القصة الطويلة والرواية ("مدير مدرسه" لـجلال آل أحمد، "ملكوت" لـبهرام صادقى، "واهمه هاى بى نام و نشان" لـساعدى، "شازده احتجاب" لـهوشنگ گلشيرى)، وخروج النقد الأدبي من أيدي المحافل والمجلات الأكاديمية والمحافظة، وانتقاله إلى صحف وأسبوعيات ودوريات، بحيث لا تبقى الآراء الأدبية حكراً على "وحيد" و"ارمغان" و"راهنماى كتاب" و"سخن"، بل تحدده "كيهان ماه" و"كتاب هفته" و"جگن" و"آرش" و"انتقاد كتاب" و"فردوسى" و"خوشه" وحتى الصحف. فأساس النقد الأدبي بخاصيته المعاصرة هو الهروب من المراكز الأكاديمية والتشتت والتزلزل وهدم كل القيم وإعادة تأسيسها. إن الشعر السياسي-الاجتماعي قبل الثورة كان يواجه اللغة البرجوازية والمؤدبة وأدبيات الكلام المتعارف عليها ومعارف الطبقة الحاكمة، عن طريق إبراز لغة غير أدبية والسخرية، وحتى السب والقذف والسخرية من الأنساق المتهاوية، وكان وراء أدب من نوع جديد. إن "مركز الكُتَّاب" الذي تأسس في هذه المرحلة بداعي الحاجة إلى حرية الرأي والتفكير فتح فصلاً جديداً ومهماً للاعتراض الرسمي لمخالفي الرأي في عصر الشاه على الثقافة الرسمية الحاكمة : وتمثل ذلك بدايةً بمعارضة مجموعة من الكتاب لـهويدا، ثم بالاعتراض على تشكيل الحكومة للمجامع الرسمية قصد مصادرة الأدب غير الرسمي، ثم بتأسيس جلسات جديدة لقراءة الشعر وبالتكريم الأدبي، مثال ذلك "شبهاى شعر خوشه" بعناية أحمد شاملو، ونادي فناني مدينة طهران، وتكريم نيما يوشيج على يد مركز "كتاب إيران" في كلية الفنون الجميلة التابعة لجامعة طهران، وكذلك، عن طريق تحرك جمع من الكتاب سنة واحدة قبل الثورة، وكذلك الخطوة الكبيرة المتمثلة في عشرة ليال في «انستيتو  گوته» والتي بافتتاح حركة الثورة اقترب الكاتب والمركز والأدب كذلك إلى سطح الحركة...ومنذ ذاك الحين ستبدأ كتابة الشعر والقصة السياسيين ومذكرات المعتقل والتعذيب وتفسير الأدب من وجهة نظر تاريخ تلك "الحركة"..لكن ظاهرة كهذه لا يمكن أن تكون عميقة ولا خالدة. الثورة تقتضي لغة جد حيوية. من بين اللغات التي تشكلت مع عشرات ومئات الروايات الفارسية، لدينا ثلاثة مراحل تاريخية في هذه الفترة. الحركة الديموقراطية لأجل الثورة، والثورة نفسها، والحركة الديموقراطية بعد الثورة وحتى سنة 1981م و...
تفتح الثورة حواراً جديداً حول الإسلام والغرب. وحوار من هذا النوع لم يكن مسبوقاً في تاريخ الإسلام منذ الحروب الصليبية، لكن هذه المرة مركز النزاع يتواجد في بلد غير عربي، وخارج عن نطاق السُنّة، ومجال جديد، وهو إيران. قبل هذا الوقت تحقق الحوار مع الغرب بشكل آخر، أي عن طريق المشروطة، لكن بعد ذلك اتخذ الحوار شكلاً آخر، بعضه اتخذ شكلا إسلاميا إيرانيا، مثل تيارات المشروطة والمشروعة قبل تسعين سنة. أما بعضه الآخر اتخذ شكل المواجهة الثقافية السياسية، مثل النقاش الذي فُتح مع قصة " غربزدگى " لـجلال آل أحمد في أوائل عقد الأربعينيات، وبعضه الآخر اتخذ طابع السياسي الديني، مثل الظاهرة التي برزت مع 5 حزيران، ومازالت مفتوحة – مثل باقي الأشكال – على مستوى إيران والمنطقة وحتى العالم. ولا يمكن، بطبيعة الحال، أن نتطرق لكل هذه الظواهر، لكن أود الإشارة إلى نقطة مهمة وهي أن الثورة وتحركاتها وتغيير الحكومة، وسقوط الملكية التي عمّرت 2500 سنة، ومواجهة الغرب، على إثر هذا كله توقف الأدب والفن الإيراني بشكل عام عن أنواع الروايات المربوطة بتلك العهود. وهذه التغييرات هي التي سببت الأولويات التاريخية في الأدب الإيراني. يحتاج هذا الموضوع إلى توضيح أكثر.
 كانت الثورة الدستورية تنبئ بتغيير الزمان، ورسالتها كانت أنه مرّ زمان واليوم هناك زمان آخر، ولذلك سيكون زمان آخر في المستقبل. وإن طالبوف وزين العابدين مراغه اى ودهخدا وجمالزاده وهدايت هم تناج ذاك التصور (التغيير الزماني). إن الشعر يظل قمة الأنواع الأدبية قبل الثورة. وهذه الثورة تهتم بالزمان.
إن جيلنا والجيل السابق متعلق بالحرب العالمية الثانية، و 21 يوليوز، وحركات عقد الأربعينيات، لكن الوقائع العينية لا يمكن مقارنتها بالظاهرة التي برزت أثناء ثورة 11 فبراير. لذلك فالثورة قدمت تصوراً جديداً لـ«كرونوتوپ»  (الزمان والمكان)، فهذه الظاهرة الجديدة تتطلب الراوي، كما تتطلب الرواية، كما يعبر عن ذلك ميخائيل باختين. مع الثورة ندخل بشكل جدي في مجال الزمان، الشعر ورغم تجديد رونقه في عقد الستينيات والسبعينيات، على مستوى البناء والشكل واللغة، حتى تقدم على شعر الأربعينيات، إلا أنه لن يبق الجنس الأساسي الأدبي في هذه المرحلة. فقد حدثت تغييرات كبيرة في الأولويات الأدبية. بيان ذلك أنه طوال الزمان، قبل وبعد الثورة، حرب في كل مكان، وبعد الحرب هناك صفوف وسجون وساحات وشوارع وبواطن الأشخاص والبواطن المتلاشية والمشتتة للناس...وكل ذلك خارج عن نطاق الشعر، حتى الشعر الروائي، لهذا السبب نجد أن ثلاثة أجيال متتالية تكتب الرواية، بأنواعها المختلفة، نذكر بعضهم مراعين ترتيب العمر: سيمين دانشور وعلى محمد افغانى واحمد محمود وإسماعيل فصيح ورضا براهنى وهوشنگ گلشيرى ومحمود دولت آبادى وجواد مجابى وشهرنوش پارسى پور وغزاله عليزاده ومحمد محمد على وبيژن بيجارى وشهريار مندنى پور ومنصور كوشان ومنيرو روانى پور وعباس معروفى وأمير حسن چهل تن وفرخنده آقايى  فرخنده حاجى زاده، وعشرات الكتاب الآخرين الذين أدخلوا الرواية والقصة القصيرة مرحلة عامة. رغم معارضة الحكومة للتجديد، فإن إيران قدّمت لتاريخ الأدب الإيراني أهم شكل للتجدد، يعني الرواية بصفتها صورة نوعية للأدب المعاصر الإيراني. إن أبرز خصوصية للحركات الثورية هي إيجاد الأزمة وعدم التوازن.               

  

ليست هناك تعليقات: