اللغة الفارسية في أفغانستان : التحديات والآفاق

اللغة الفارسية الدرّية (الأفغانية)
التحدّيات والآفاق 
[مترجم]
ذ/ أحمد موسى
لا تخفى على أحد مكانة اللغة الفارسية وتاريخها في أفغانستان. فقد كانت هذه البلاد ومنذ القِدم، مركزاً من المراكز الرئيسة لنشأة اللغة الفارسية وانتشارها. وانحدر من هذه المنطقة الجغرافية العديد من الأساطين والعلماء الكبار في اللغة الفارسية وآدابها. واليوم، وبالرغم من كل الصعوبات التي تعاني منها، فإن أفغانستان تعتبر واحدة من الدول الثلاث في العالم التي تحظى فيها اللغة الفارسية بالرسمية والانتشار الواسع.
يمكن للغة الفارسية الأفغانية بما اشتملت عليه من مفردات فارسية قديمة ومن نظام صوتي أصيل أن تكون مفيدة وجذابة بالنسبة لباقي الناطقين بالفارسية في العالم، كما يمكن في بعض الحالات أن تكون ناجعة في حل إشكالات النصوص القديمة. بيد أن أكثر قيم هذه اللغة أهمية يكمن في أنها تربط جسراً فكرياً وثقافياً قوياً بين شعبي أفغانستان وإيران وتشكّل قاسماً مشتركاً بين ثقافة الشعبين.
كما أن الاهتمام بفارسية أفغانستان وإحياء المشتركات اللغوية لشعوب هذه المنطقة من شأنه أيضاً أن يساعد في حفظ وتطوير اللغة في كلا البلدين، كما بإمكانه أيضاً أن يبقي على الأقل على منطقة نفوذ ورواج اللغة الفارسية على وضعها الراهن بعدما تعرضت، منذ وقت طويل، للتمزق والتشتت، إن لم يشكّل خطوة إلى الأمام نحو إحياء ماضي هذه اللغة التليد.
من ناحية أخرى، وبفضل اللغة والخط الفارسيين توجد اليوم إمكانيات وقدرات بالفطرة، كبيرة وعديدة، لربط التواصل الثقافي بين هذين البلدين العريقين، ذلك أن أفغانستان هي البلد الوحيد في العالم الذي يستقبل الانتاجات الثقافية الإيرانية دونما حاجة إلى ترجمتها أو حتى تغيير الخط لفهمها والإفادة منها.
لذلك، على مجمع اللغة الفارسية في إيران أن يضطلع بمهمة ثقيلة وجسيمة بغرض الحفاظ على أصالة هذه اللغة، ولن ينجح في ذلك من دون الاهتمام بأفغانستان وقضايا اللغة الفارسية في هذا البلد. وهي تشكل ضرورة ملحة لما تواجهه اللغة الفارسية من تحديات في البلدين معا.
التهديدات والعوائق :
بالرغم من تاريخ ومكانة اللغة الفارسية في أفغانستان، إلا أنه ينبغي القبول بأن هذه اللغة تواجه في مهدها التاريخي الكثير من التحديات والعوائق والتهديدات أيضاً. يمكن تحديد أهم هذه الإشكالات في النقاط التالية :
1/ دخول الكثير من المفردات الأجنبية إلى هذه اللغة خلال القرون الأخيرة، وبخاصة في العقد الأخير (الذي انفتحت فيه هذه الدولة بشكل مفاجئ وواسع على العالم الخارجي). وتكثر هذه المفردات في مجالات العلم والاتصالات الحديثة. ولا توجد في أفغانستان إرادة وطنية أو حكومية لمواجهة هذا المسار.
وما يجعل الأمر يكتسي الخطورة هو ضعف المستوى الثقافي والعلمي لدى عموم الشعب الأفغاني، وهو ما يؤدي إلى اقتناعهم بدعوى أن لغة الأفغانيين هي "الدريّة" وليست "الفارسية"، مما يدفع بالكثير من الأفغان إلى التمسك بالمفردات الأجنبية على أساس أنها كلمات دريّة، ويبعدهم عن استعمال الكلمات الفارسية المعادلة للكلمات الأجنبية. ويُلاحظ أن حتى بعض المثقفين والنخب في أفغانستان لا تتورع عن استعمال كلمات مثل "بايسكل" و"پروگرام" و"فاكولته" وتتمسك بها مقتنعة بأنها كلمات دريّة، والكلمات المعادلة لها "دوچرخه" [الدراجة] و"برنامه" [البرنامج] و"دانشكده" [الكلية] هي كلمات فارسية غير قابلة للاستعمال في هذه الدولة.
2/ النفوذ التدريجي للغة الإنجليزية في النظام الإداري لأفغانستان، وبخاصة في المؤسسات غير الحكومية التي أقامتها الدول الأجنبية أو التي تدعمها. ففي هذه المؤسسات، تُستعمل اللغة الانجليزية، اليوم، في أكثر المكاتبات والمراسلات، ولم يقف الوضع عند هذا الحد، بل انتشرت هذه الطريقة، بشكل أو بآخر، في الإدارات الحكومية والمؤسسات التعليمية الأفغانية بسبب ارتباط هذه الأخيرة بالمؤسسات الأجنبية. وأكثر الأشخاص الذين يديرون الأعمال في أفغانستان هم العائدون من باكستان أو الغرب، وهم في الغالب يتقنون اللغة الإنجليزية أكثر من الفارسية.
3/ انتشار كثرة الأخطاء على المستوى الصواتي للغة (ظاهرة اللحن في الفارسية) إلى حد تغيّر نطق الكثير من المفردات عما كان عليه في الأصل الفارسي الفصيح. ومثال ذلك نشير إلى شيوع استعمال "زياف" عوض "زياد" [كثير]، و"كاريگر" عوض "كارگر" [العامل]، و"آهين" عوض "آهن" [الحديد]. والكثير من الكلمات الأخرى من هذا القبيل، مما جعل من اللهجة الأفغانية غير مفهومة بالنسبة للإيرانيين أصحاب اللسان الفارسي.
4/ الضعف الواضح للغة الفارسية الأفغانية على مستوى القواعد والنحو، خاصة تلك المستعملة في وسائل الإعلام. والسبب الرئيس وراء هذا المشكل يكمن، في جانب، في ضعف المستوى الثقافي والعلمي العام وعدم نجاعة النظام التعليمي في هذا البلد. ومن جانب آخر نفوذ الأفغان المتعلمين في الخارج والمتقنين للغتين الأردية والإنجليزية والغريبين عن الفارسية، في وسائل الإعلام.
5/ الاختفاء التدريجي للهجات المحلية الأصيلة والغنية وغلبة لهجة العاصمة، بسبب انتشار وسائل الإعلام. وما يعقّد الأمر أكثر هو غياب أية مؤسسة تُعنى بالحفاظ على اللهجات المحلية وعلى معجمها وقيمها. ويجب إضافة شيء آخر وهو إحساس البعض، وخاصة في المدن الصغيرة والأرياف بوضاعة لهجته المحلية وحقارتها، مما يؤدي بهم إلى تعويض هذا الإحساس عن طريق اللحاق بركب التيار العام للهجة العاصمة.
العوامل والأسباب :
يمكن حصر العوامل والأسباب المسؤولة عن الاختلالات المشار إليها في اللغة الفارسية الأفغانية في النقاط التالية :
1/ ضعف المستوى العلمي والثقافي العام بسبب عقود من الحروب والاضطرابات الاجتماعية والسياسية. وخلال هذه المدة هاجرت الكثير من النخب الأفغانية وطلبت اللجوء إلى الدول الأجنبية. وتعطّلت عن العمل الكثير من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وانمحت، تقريباً، الطبقة المتوسطة في المجتمع التي كان بمقدورها دعم العلم والثقافة.
بيد أنه في السنوات الأخيرة، عرف النظام التعليمي الأفغاني تحسناً ملحوظاً بسبب دعم الأجانب للجامعات الحكومية وأيضاً بسبب تأسيس مؤسسات جامعية خاصة. لكن المشكل يكمن في أن الدول الأخرى لا تبدي اهتماماً يُذكر بفتح أقسام اللغة الفارسية وآدابها، كما أن هذا التخصص لا يلقى إقبالاً من طرف الطلاب في الجامعات الخصوصية.
2/ الانفتاح المفاجئ والكلي لأفغانستان على العالم الخارجي، وبالخصوص على الغرب، إلى درجة أن أغلب الأنشطة العلمية والثقافية في أفغانستان، اليوم، تُنظم أو تُدعم بإشراف مباشر من المؤسسات الأجنبية غير الحكومية. ويتحول موظفو هذه المؤسسات المحليين، الذين يُشترط لتوظيفهم الإتقان الكامل اللغة الإنجليزية، إلى مروّجين وناشرين للغة الإنجليزية، بصورة آلية وغير مباشرة، في أوساط عائلاتهم ومحيطهم، وفي المجتمع بأكمله.
3/ نفوذ سيادة اللغة البشتونية (هي لغة أفغانستان الرسمية حالياً) وإهمالها الممنهج والمؤسساتي للغة الفارسية (اللغة الأصل والأم)، والذي يبدو في بعض الأحيان أن له خلفية عدائية. انصبت المساعي خلال سبعين سنة الماضية على تكريس موقع اللغة البشتونية في أفغانستان بوصفها لغة وطنية. وقطع صلة اللغة الفارسية الأفغانية بالخارج (إيران) بالتأكيد على تسمية "اللغة الدّرية". ويُشار في المناهج والكتب المدرسية في أفغانستان بشكل واضح إلى استقلالية "الفارسية" عن "الدّرية"، ويتم تقديم هذه الأخيرة على أن أصولها التاريخية متفاوتة عن الفارسية الأم.
4/ انقطاع التواصل بين الأفغان المتحدثين بالفارسية في الداخل والأفغان في الخارج خلال العقود الأخيرة، وبقاؤهم بعيداً عن تحولات اللغة الفارسية في الدول المجاورة وفي معزل عنها. وما كرّس هذه القطيعة هو التأكيد على تسمية اللغة الفارسية الرائجة في أفغانستان بـ"الدّرية"، واعتبارها لغة أجنبية بالنسبة للفارسية.
5/ قلة اهتمام القائمين على اللغة الفارسية في إيران باللغة الفارسية الأفغانية، سواء على المستوى الإعلامي، أو على مستوى الفعاليات المشتركة التي من شأنها الحيلولة دون حصول القطيعة التي أشرنا إليها في النقطة السابقة. ولا بد من الاعتراف بأن الناطقين بالفارسية في أفغانستان تُركوا، خلال القرن الأخير، بمفردهم يواجهون التحديات للحفاظ على لغتهم. فلم يقف بجانبهم لا السلطات الأفغانية ولا المؤسسات الثقافية والأدبية الإيرانية.
الأولويات :
بالنظر إلى ما تم ذكره، يبدو أن الأولويات والأهداف التي ينبغي أن تضعها المؤسسات العلمية والأدبية الإيرانية، وعلى وجه التحديد مجمع اللغة الفارسية، في أفق الحفاظ على اللغة الفارسية الأفغانية وتقريب الهوة بينها وبين شقيقتها في إيران، تتمثل فيما يلي :
1/ الزيادة في وتيرة تواصل أهل الأدب وأصحاب القلم في البلدين عن طريق تبادل الأسفار والزيارات، والملتقيات والتواصل الإعلامي. يجب الإذعان بأن السبب الرئيس في عدم ربط التواصل بين أصحاب اللغة الواحدة في إيران وأفغانستان يكمن في انعدام المعرفة والتعارف. فالإيرانيون غالباً ما يعتبرون أن اللغة الفارسية هي لغتهم الخاصة ويجهلون ميزان رواجها ونسبة انتشارها خارج حدود بلدهم، ولذلك لا يحسون بضرورة هذا التواصل مع جيرانهم. بالمقابل فالكثير من الأفغان وبسبب هذه النظرة الموجودة في إيران يشككون في كل شيء، حتى في إجراء تواصل سليم، وينظرون إلى ذلك نظرة يأس. والتواصل كفيل بردم الهوة ورفع اليأس وتقريب الطرفين.
2/ اختيار أسلوب معقول ومدروس لتكريم مفاخر الأدب الفارسي ليكون جسر وفاق وصداقة بين الأمتين الأفغانية والإيرانية. لأنه لوحظ في القرن الأخير أن أسلوب الاحتفال بالمفاخر الأدبية في البلدين يطبعه الجدال والتحدي والخصام وسوء الفهم. وأدت السياسات الثقافية الخاطئة في البلدين إلى النظر إلى بعضهم البعض بعين الخصم وليس بعين الصديق.
3/ تشجيع وسائل الإعلام الإيرانية على الاهتمام أكثر بأفغانستان، وتقديم صورة مغايرة لما تقدمه عن أفغانستان اليوم. فالصورة التي تعكسها وسائل الإعلام، بأنواعها المختلفة، في إيران، عن أفغانستان ليست صورة بلد شقيق وجار يتقاسم مع إيران نفس اللغة ونفس الثقافة والتاريخ و... فلا بد من إعادة النظر في السياسة الإعلامية الإيرانية تجاه أفغانستان حتى تتهيأ الأرضية المناسبة لرفع سوء التفاهم وتتعمق الثقة ويحصل المبتغى.
4/ ضرورة التعاون والتنسيق بين مجامع اللغة الفارسية في البلدين، والاعتراف الرسمي بإنتاجات ومصوبات مجمع اللغة الفارسية في أفغانستان. هذا إذا لم يستطع البلدان تأسيس مجمع واحد وموحد للغة الفارسية تنصهر فيه جميع الجهود.









علل تأثير الثقافة العربية في الثقافة الفارسية

علل تأثير الثقافة العربية في الثقافة الفارسية

د/ أحمد موسى

(مقالة نشرت بالعدد رقم 14، سنة 2014، من مجلة جامعة القرويين بفاس/المغرب)




تهدف هذه المقالة إلى بيان الأسباب، وشرح العوامل التي كانت وراء تأثير الثقافة العربية على نظيرتها الفارسية، وقد أقبلت على البحث في هذا الموضوع، في هذه المقطع التاريخي بالذات، لما تكتسي هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي من أهمية، وكذلك لما أثير ويثار، في المنابر الأدبية والأبحاث المقارنة، من نقاش وجدال حول أسباب هذا التأثير ودواعيه وكذلك تداعياته. وقد توخيت في هذا البحث المتواضع الدقة العلمية والأمانة في النقل من المظان العربية والفارسية على حد سواء.
يعتبر فتح العرب المسلمين لبلاد فارس أهم حدث عرفته هذه الأخيرة في تاريخها، لما كان له من تداعيات سياسية وثقافية متعددة الجوانب. بحيث إن تأثير الثقافة العربية في المجتمع الإيراني من بين أهم هذه التداعيات. ومما لا شك فيه أن تأثير الثقافات في بعضها البعض، وخصوصاً الثقافة الغالبة على الثقافة المغلوبة، يؤدي، على مر التاريخ، إلى تغيرات عميقة وشاملة، لدرجة يمكن أن تحل ثقافة محل أخرى، أو تختلط إحداهما بالأخرى، لتبرز ثقافة جديدة بمعالم مغايرة عن أصلها. وهذا الأمر هو الذي حدث بين الثقافتين العربية والفارسية. فبالرغم من أن إحداهما لم تلغ الأخرى، إلا أن طابع الثقافة العربية الإسلامية كان واضحاً على الثقافة الفارسية منذ الفتح الإسلامي لبلاد فارس إلى يوم الناس هذا.
لقد ساهمت عوامل عديدة في التعامل بين الثقافتين العربية والفارسية. فتاريخ التعارف بينهما قديم يعود إلى ما قبل الإسلام. حيث كانت روابط الجوار الجغرافي وعلاقات النسب وصلات سياسية وثقافية واجتماعية وراء تمازج العرب والفرس، الذي انتهى بحدوث تحول جذري مع الفتح الإسلامي لإيران وخضوعها لحاكمية العرب ردحاً من الزمن، مما كان له آثار عميقة في النفسية الفارسية.
أسباب تعلق الإيرانيين باللغة العربية وثقافتها:
لمّا دخل الاسلام إلى بلاد فارس دخل بلسان عربي مبين. ووجد الفرس الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بجور الحكام الساسانيين ومرازبتهم[1]، متشوقين غاية الشوق، لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف ورفع رايته وخدمة لغته. ومنذ ذلك الوقت انحسرت اللغة الفارسية الفهلوية[2]، وأقبل الفرس على اللغة العربية بوصفها لغة الدين الجديد، معتبرين إياها لغة الفاتح، فأولوها عنايتهم وانبروا لتعلمها وإتقانها. ويمكننا حصر أسباب هذا الاقبال فيما يلي :
تبادل الزيارات بين الوفود العربية والإيرانية، وتردد التجار العرب على بلاد فارس واستقرارهم بها، واختلاطهم بأهلها. فقد كان بعض الخطباء العرب يفدون إلى إيران قبل الإسلام وكان الإيرانيون يكرمونهم إكراماً عظيماً[3]. والأعشى، وهو أشهر من أن يُذكر، وعلى الرغم من ضعف بصره فقد كانت له قريحة نفّاذة، ومع أنه كان يعشو في رؤيته، فقد كان يقطع مسافات طويلة ويأتي إلى إيران حباً منه للإيرانيين الذين كانوا يكرمون وفادته ويشتاقون إلى الاستماع لأشعاره العربية، وقد ذكرت وفادة الأعشى لإيران في مختلف الكتب وكان لها أثران مهمان وهما : تأثر الإيرانيين باللغة العربية التي كان الأعشى ينشد بها أشعاره، وتأثر الأعشى باللغة الفارسية، حيث يشاهد بعض الكلمات الفارسية في بعض أبياته. وقد جاء إلى إيران عدة مرات بأشعاره العربية، وقالت عنه موسوعة المورد : "وفد على ملوك فارس فمدحهم، وسار شعره العذب على الألسنة"[4]، والمعروف أن الأعشى كان يفد على بلاط الساسانيين ويمدحهم وينال الجوائز منهم[5].
من ناحية أخرى يقر أحمد بن أبي يعقوب المعروف باليعقوبي في كتابه [تاريخ البلدان] بأن فارسية أهل خوزستان اختلطت كثيراً بالعربية لكثرة ارتباط أهلها بالعرب[6]. أما في المجال التجاري[7] فقد كان التجار الإيرانيون يتوافدون على الحجاز. وكان بعض منهم يعيش في اليمن.
إن اعتناق الدين الإسلامي وضرورة تعلم اللغة العربية لقراءة القرآن وأداء الصلاة والواجبات الدينية، ونشر الأحاديث بين بني جلدتهم، تعتبر من العوامل الأخرى لإقبال الفرس على اللغة العربية. إذ لا يخفى شغف الناس بهذا الدين الذي أعتقهم من ربقة العبودية لمرازبة الفرس، والتحرر من نظام المجتمع الطبقي، كما يقول آرثر كريستنسن بأن مراتب المقامات والطبقات في ذلك العهد كانت معقدة جداً ومظلمة[8]. ويتجلى ذلك في الحب الشديد للدين الجديد، والإقبال على لغته وثقافته وترك لغتهم الأم. وحبهم للقرآن الكريم ولغته كان بارزاً في قول عالم الدين والفيلسوف الإيراني الشيخ مرتضى مطهري : "سحر القرآن وجاذبيته اللفظية والمعنوية وأحكامه الخالدة للعالمين، كل هذا جعل المسلمين، على اختلاف جنسهم ولونهم، يتبنّون هذه التحفة الإلهية وينجذبون إلى لغة القرآن، وينسون لغتهم الأم، وهذا كان حال كل الأمم المعتنقة للإسلام"[9].
وكان نتيجة ذلك، أن عرفت اللغة والثقافة الفارسيتين ركوداً. إذ كانت المراسلات الإدارية وكل شؤون الخلافة التي كانت إيران جزءاً منها تحرر باللغة العربية. وكان الأمراء يُعيَّنون من قبل الخليفة على مختلف الولايات، وكانوا بالطبع عرباً، ينشرون تعاليم الاسلام في الممالك المفتوحة ويعلمون الناس لغة التنزيل. "بعد تحكم الإسلام في إيران، أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية والإدارية للإيرانيين. إذ كانت الأحكام والفرامين تصدر باللغة العربية. وراجت الكتابة باللغة العربية في ظل الخلافة الأموية، حتى كان أغلب الشعراء والكُتَّاب الإيرانيين ينظمون أشعارهم ويدونون كتبهم باللغة العربية، ويكفي أن نستشهد بالصاحب بن عباد وابن العميد"[10].
ومن العوامل الأخرى في هذا المسار تشكيل المجتمع الاسلامي القائم على دين وفكر واحد وثقافة ولغة واحدة. وهذا الأمر أدى إلى انصهار جميع العناصر غير العربية، ومن بينها الفرس، في بوتقة المجتمع الإسلامي العربي. ولقد كان لهذا التوحد فضل على الفرس في توحيد أفكارهم وعقائدهم المشتتة بين الزردشتية والمانوية والمزدكية، وجمعهم على قلب رجل واحد وعلى دين واحد. وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبد الحسين زرينكوب في كتابه (تاريخ الشعب الإيراني من نهاية العهد الساساني إلى عهد البويهيين) : "تقبل العديد من الناس بشكل تدريجي دخول الجيش المهاجم إلى بلادهم بصدر رحب، وكان هذا الجيش في أوساط بعض الطبقات بمثابة المنقذ من هيمنة النجباء وأصحاب البيوتات التي سيطرت على المجتمع الايراني منذ عهد هرمز خسرو...المنقذ من سلطة رجال الدين الزردشتي الفاسدين..."[11]. إذن، كان دخول الإسلام والاقتداء بالقرآن الكريم مقدمة لبسط سيطرة اللغة والثقافة العربيتين على بلاد فارس، حيث كانت المدينة المنورة مرجعاً وحيداً للفقه والحديث في بداية الدولة الإسلامية. ومنذ ظهور الإسلام وحتى نهاية عصر الخلفاء الراشدين سنة 41 هـ، كان القرآن الكريم الكتاب الوحيد المنتشر بين المسلمين الذين اهتموا بحفظه وجمعه واستندوا عليه في احتجاجهم. إذن، كان للعوامل التي أشرنا إليها الدور الأساس في إهمال الفرس لثقافتهم الأم في بدء الإسلام واهتمامهم في المقابل باللغة العربية وعلومها وآدابها. يقول الشيخ مرتضى مطهري في هذا الصدد : "إلى حدود نهاية القرن الرابع الهجري كانت الثقافة الإسلامية قد بسطت نفوذها الكامل في إيران، وتأسست المدارس العلمية في مناطق مختلفة، وظهر الدين الإسلامي على سائر الأديان، وهزمت مقاومة الزردشتيين في نواحي إيران كلها هزيمة نكراء، واصطبغت الثقافة الإيرانية بصبغة إسلامية. واتخذت القرارات على أساس العادات العربية ومبادئ الدين الإسلامي. وكان نتيجة ذلك، ازدياد نقل الكُتَّاب والشعراء الإيرانيين من المضامين العربية..."[12]. أما الدكتور عبد الحسين زرينكوب، المؤرخ الإيراني المعاصر فهو لا يخفي تعصبه لعرقه ولغته، وهو يقر بهزيمة الحضارة الايرانية أمام الدين الجديد، وأسلوبه ينم عن حقد دفين للعرب وللغتهم حين يقول : "كانت اللغة العربية قبل هذا العهد لغة قوم شبه متوحشين، خالية من أي لطف أو جمالية. ومع ذلك حينما ارتفع صوت القرآن والأذان في سماء إيران الشاهنشاهية، خمدت اللغة الفهلوية في مقابله ولزمت الصمت. مما حذا بلغة إيران إلى الاضمحلال في ظل بساطة الرسالة الجديدة وعظمتها. ولم تكن هذه الرسالة الجديدة سوى القرآن الذي أعجز فصحاء العرب وأسكت عمق معانيه العرب"[13]..
[للاطلاع على المقالة كاملة راجع المجلة]



[1]  جمع مرزبان، وهو اسم علم مذكر فارسي، ومعناه حارس الحدود، مركب من مرز (حدود البلاد)، وبان (الحارس)، ثم صارت رتبة عسكرية عالية.
[2]  أورد ياقوت الحموي في معجم البلدان، في الجزء الرابع ذيل كلمة "فهلو" أن كلام الفرس قديماً كان يجري على خمسة ألسنة وهي الفهلوية (البهلوية)، والدرية، والفارسية، والخوزية، والسريانية. فأما الفهلوية فكان يجري بها كلام الملوك في مجالسهم، وهي لغة منسوبة إلى "فهلة"، وهو اسم يقع على خمسة بلدان هي : اصبهان (اصفهان)، والري، وهمذان (همدان)، وماه نهاوند، وآذربيجان (آذربايجان). كما نقل ياقوت الحموي عن ابن المقفع قوله أن بلاد الفهلويين سبعة هي : همذان، وماسبزان، وقم، وماه البصرة، وماه الكوفة، وقرميسين. وليس الري واصبهان، والقومس، وطبرستان، وخراسان، وسجستان، وكرمان، ومكران، وقزوين، والديلم، والطالقان من بلاد الفهلويين.
[3]  قصص العرب (تأليف عدد من الأساتذة المصريين)، طبع دار احياء الكتب العربية، 2003 . ق، ج 1، ص 19. نقلاً عن : حسين جوبين، صداقة الفرس والعرب قبل الاسلام وأثرها في الأدب العربي، ص 5.
[4]  البعلبكي، منير، موسوعة المورد، بيروت، سنة 1981 م، ج 5، ص 163.
[5]  الحمامي، سيد محمد علي، المطالعات في مختلف المؤلفات، طبعة النجف الأشرف، ص 21.
[6]  تاريخ مردم ايران، ساسانيان تا ديالمه، [تاريخ شعب إيران، منذ الساسانيين إلى الديالمة]، ص : 29
[7]  أحمد أمين، فجر الاسلام، ص : 13-22
[8]  آرثر كريستنسن، ايران در زمان ساسانيان، [إيران في عهد الساسانيين] 1989، ص 121.
[9]  مرتضى مطهري، خدمات متقابل اسلام و ايران، [الخدمات المتبادلة بين الإسلام وإيران]، ص : 604.
[10]  سيد جعفر سجادي، نقد تطبيقي ادبيات ايران وعرب، [النقد المقارن للأدب الإيراني والعربي]، ص : 255
[11]  عبد الحسين زرينكوب، تاريخ مردم ايران از يان ساسانيان تا آل بويه، [تاريخ الشعب الإيراني من نهاية العهد الساساني إلى عهد البويهيين]، ص : 11
[12]  مرتضى مطهري، خدمات متقابل اسلام و ايران، [الخدمات المتبادلة بين الاسلام وإيران]، ص 83
[13]  عبد الحسين زرينكوب، دو قرن سكوت، [قرنان من الصمت]، ص 112

سهراب سپهری، شاعر الحجم الأخضر

سهراب سپهري
شاعر الحجم الأخضر

                                                                ذ.أحمد موسى*





ولد سهراب سپهري عام 1928م في مدينة "كاشان" وتخرج عام 1953م من كلية الفنون الجميلة بطهران. نشأت رغبته في الرسم موازية لرغبته في الشعر، حيث كان بالإضافة إلى إصدار مجاميعه الشعرية يقيم معارض لرسومه في مختلف أنحاء طهران، وفي بعض الأحيان كان يقيم أمسيات شعرية في هذه المعارض :
اهل كاشانم
پيشه ام نقاشى است
گاه گاهى قفسى مى سازم با رنگ، مى فروشم به شما
تا به آواز شقايق كه در آن زندانى است
دل تنهايى تان تازه شود.
چه خيالى، چه خيالى،...مى دانم
پرده ام بى جانم است.
خوب مى دانم، حوض نقاشى من بى ماهى است[1]

الترجمة :
من كاشان أنا
مهنتي الرسمُ
أصنع أحياناً قفصاً بالأصباغ، أبيعه لكم
ليُمتع قلبكم
بأغاني الشقائق المحبوسة فيه
أيُّ خيال، أيُّ خيال،...أعلمُ
أنَّ لوحتي لا روح لها.
أعلمُ جيداً أن حوض لوحتي خالٍ من الأسماك.

تركيب الشعر والرسم في روح سهراب سپهري المنعزلة والتواقة إلى نوع من العرفان الحديث يُكسب شعره شفافية الإحساس والدقة والفنية، وأيضاً يكسب لوحاته نوعاً من الإخلاص الشعري.
 يبتدئ ديوان "الحجم الأخضر" بشعر "رسالة الأسماك" فتفتقد أشعاره طبيعتها الواقعية وتنحو نحو السريالية. لكن فضاءه السريالي يفتقد لأي قيمة رمزية، وينطوي على وجود روح كلية في الأشياء والطبيعة ودوران تناسخي فيها. فهو في هذه المجموعة صاحب حس عال تكتسي فيه مدينته الفاضلة شكلاً ذهنياً..
 إذن من أهم مميزات شعر سهراب : الخيال اللامحدود، ونوع من السريالية الأنيقة، والبحث عن الصلات بين الأشياء و المفاهيم من منظار شاعري ممزوج بالخيال.
 رحلات سهراب إلى الغرب والشرق وزيارته روما وأثينا وباريس والقاهرة وتاج محل وآغره وطوكيو تعتبر سلوكاً روحياً، تأمل فيه سهراب في الأرواح والأنفس، أكثر ممّا جاب به العالم.
 قبل أن يقصد سهراب الهند واليابان كان يألف التفكير البوذي، السلامة العرفانية للقدماء، فقد أدت هذه الرحلة إلى تعميق الفتنة ورغبته. وفي الأخير أكسبت فنَّه مساراً عرفانياً ومتطهراً.
 وقد أكسبته رحلته إلى اليابان التي كانت بهدف تعلّم النحت على الخشب أشياء أخرى. إذ نرى أجواء قصائده تشبه أجواء شعر "الهايكو" الياباني.
وإذا ما كان سهراب راضياً بموروثه وممتلكاته، وإذا كان ملتزماً بمحيطه ومدينته، فهذا من تأثير هذه الرحلات.
 ونزعة سهراب إلى الطبيعة بارزة بوضوح في شعره ورسومه، لأنه أقبل على الطبيعة في حياته، وتجنّب من حوله، هؤلاء الذين ربما يمتلك القليل منهم الصفاء والنقاء الإنساني الأمثل :
به سراغ من اگر مى آييد،
نرم و آهسته بياييد، مبادا كه ترك بردارد
چينى نازك تنهايى من[2] .

الترجمة :
إذا جئتموني،
فتعالوا بلطف و هدوء
مخافة أن تنفطر زجاجة وحدتي الرقيقة.

رغبة سهراب بفن و مدارس الشرق الأقصى الفنية والفكرية شيء واضح، وقد واكب هذه الرغبة بوعي من خلال ولعه بالبحث والدراسة في الفلسفة والأديان، كما عُرف عنه في الخمسينيات بأنه رسام متجدد. مع أنه قد ابتدأ كتابة الشعر في نفس هذه الفترة. صدر ديوانه الأول "موت اللون" في عام 1951م، وفي عام 1953م صدرت مجموعته الثانية تحت عنوان "حياة الأحلام". وأصدر عام 1961م مجموعتين هما "أنقاض الشمس" و"شرق الحزن". في هذه المجاميع كان واضحاً صدى تأثيرات "نيما يوشيج"[3] رائد الشعر الفارسي الحديث، لكن في مجموعاته الأخرى "وقع قدم الماء" و"المسافر" وخاصة في "الحجم الأخضر" لا نسمع صوته المألوف، وقد رأى البعض في آخر قصائد سهراب تشابهاً بلغة "فروغ فرخ زاد"[4] الفكرية.
 طُبعت دواوين سهراب عام 1978م في مجموعة واحدة، إضافة إلى ديوان لم يصدر من قبل بعنوان "نحن لاشيء، نحن نظرة" تحت عنوان "الأسفار الثمانية".
 لاقى شعره في أوائل عهده الرفض والانتقاد، ذمَّ الشعراء والنقاد التقليديون شعره وأسلوبه، ووصفوه بأنه إنسان سلبي وغير مسئول ومنصرف عن المجتمع والناس. لكن سهراب استمر بإبداعه بعيداً عن هذا الصخب.
 كان سهراب لا يعبأ بأحكام الآخرين، كان يعلم بأن زماناً سيأتي يحظى فيه شعره بالقبول العام، فعمل في هدوئه، ووهب ما أدركه بالإشراق الفني للوحاته، وإلى كلماته الرقيقة كالماء واللطيفة كزرقة السماء.
 أبرز خصوصية في شعر سهراب هو امتلاؤه بجوهر الشعر. وفي ذلك ميزة قلّما يكتسبها الشعراء بمثل ما اكتسبها هذا الشاعر.
 شعر سهراب مع كونه مجرد من الأوزان العروضية والقافية والرديف[5] ، لكن أغلبه ينطوي على موسيقى داخلية. فهو يخلق – باستخدامه الأصوات والكلمات – موسيقى لطيفة وحلمية، تجعل قصائده متميزة عن قصائد الآخرين، وهذا الجانب يعيّن قواعد أسلوبه المتميز.
 ترابط الكلمات و تجانس الصور تظهر في أعماله بشكل بديع وصاف، وقبل أن تكون هذه الصور قابلة للإدراك في الطبيعة، تُدرك في ذهن القارئ ووجدانه، و تمتزج مع إدراكه الإنساني:
آب را گل نكنيم :
در فرودست انگار، كفترى مى خورد آب.
يا كه در بيشه دور، سيره اى پر مى شويد.
يا در آبادى، كوزه اى پر مى گردد.
آب را گل نكنيم :
شايد اين آب روان مى رود پاى سپيدارى، تا فرو شويد
                                                           اندوه دلى.
دست درويشى شايد، نان خشكيده فرو برده در آب[6].

الترجمة :
لا نُعكِّر الماء :
لعلَّ حمامة في المنحدر تشرب الماء.
أو في الأجمة البعيدة طيراً يغسل جناحيه.
أو في قرية جرّة تمتلئ ماءً.

لا نُعكِّر الماء :
ربما ينساب هذا الماء إلى صفصافة
كي يغسل حزن قلبٍ
ربما غمست يد درويش كسرة خبز يابسة فيه..

كان سهراب سپهري -في زحام شعراء ما قبل الثورة- شاعراً فذّاً، منعزلا عن صخب المثقفين المتغربين، ويعد الآن المثل الأعلى للفنان الحقيقي، فهو شاعر يستند على قدراته ومواهبه الذاتية، عاش وحيداً وابتعد كل البعد عن المكر والنفاق والتحايل. كان يمتلك كل ما يمتلكه الفنان الأصيل من فضائل.
توفي سنة 1980م إثر ابتلائه بسرطان الدم، ودفن في مدينة "كاشان".
 اخترنا منظومته "نشانى" (عنوان) لترجمتها وتحليلها بغية تعرف القارئ المغربي المتذوق على أبعاد شخصيته وطبيعة شعره :
نشانى
"خانه دوست كجاست ؟"
در فلق بود كه پرسيد سوار،
آسمان مكثى كرد.
رهگذر شاخه نورى كه به لب داشت به تاريكى شن ها بخشيد
و به انگشت نشان داد سپيدارى و گفت :
"نرسيده به درخت،
كوچه باغى است كه از خواب خدا سبزتر است
و در آن عشق به اندازه ى پرهاى صداقت آبى است.
مى روى تا ته آن كوچه كه از پشت بلوغ، سر به در مى آرد،
پس به سمت گل تنهايى مى پیچی،
دو قدم مانده به گل،
پاى فوّاره اى جاويد اساطير زمين مى مانى
و ترا ترسى شفّاف فرا مى گيرد.
در صميميّت سيّال فضا، خش خشى مى شنوى
كودكى مى بينى
رفته از كاج بلندى بالا، جوجه بردارد از لانه نور
و از او مى پرسى
خانه دوست كجاست"[7].

الترجمة :
عنوان
"أين بيت الصديق ؟"
سأل الفارس، عند الفجر،
تمهّلت السماء.
وَهَبَ العابرُ ظلمةَ الرمال غصن النور المتدلّي من شفاهه،
و أشار بأصبعه إلى صفصافة و قال :
"قبل أن تصل الشجرة
هناك زقاق مشجّر،
أكثر اخضراراً من حلم الله
فيه الحب أزرق
بلون زغب الصفاء.
تذهب إلى نهاية الزقاق، الذي ينتهي عند خلف البلوغ،
ثم تدلف إلى جانب وردة العزلة،
و قبل أن تصل الوردة بقدمين،
تمكث عند نافورة أساطير الأرض الخالدة
ستأخذك رهبة شفيفة.
ستسمع في صفاء الفضاء السيّال
خرخشة،
سترى طفلاً
تسلّق صنوبرة سامقة
كي يقتطف من عش النور فرخاً،
اسأله :
       "أين بيت الصديق ؟"


 شعر "عنوان" هو عبارة عن أسطورة، أسطورة البحث عن الصديق، أسطورة هوية الصديق. وليس المهم الصديق الذي حُدّد عنوانُه، لكن المهم هو الطريق الذي يُقطع في طلبه هذا الزقاق الأسطوري الذي افتُرش للفارس ليصل إلى "الصديق"، هو الأهم، و ليس الصديق نفسه الذي يقبع خلف الحجب. ومن هذا الحيث فإننا نلمس في قطعة "عنوان" مشابهة لقطعة "العلاقات" للشاعر الفرنسي "بودلير" التي يشبّه فيها الطبيعة بمعبد تُسمع باستمرار من أعمدته أصواتٌ تحوّل العالمَ إلى عالم من العلائم.
السعي للوصول إلى الصديق هو مصير الباحث، ويبدو أن الباحث يعيش في بحث وتنقيب عن النصيب الأبدي. لعل هذا الصديق لا يحظى بالأهمية التي تحظى بها إشاراته وعنوانه المعروف والمجهول في آن واحد. الصداقة التي ترفل في حجب الطبيعة بعيداً عن أنظارنا هي الأهم. هذه الإشارات بمثابة أضواء تنير لنا، نحن الباحثين، الأرض الموعودة وأين يكمن الجبل والهضبة والأرض غير المعبدة، هذه الأخيرة عبارة عن سطح صاف ومصقول تملأ أطرافها أضواء تدعونا للتأمل والنزول والرؤية والتجربة.
 من يكون هذا "الفارس" الذي يبحث عن عنوان الصديق ؟ الصور والاستعارات الواردة في النص تشير إلى أنه لا يمكن أن يكون شيخاً أو عجوزاً، بل إنه فتى لم يصل بعد إلى سن البلوغ أو فتاة في كامل رعونتها وحسنها قررت البحث عن حاجتها الروحية فخلّفت الدنيا وراء ظهرها وانطلقت في رحلة البحث عن الصديق. كما أن هذا الفارس يجب أن يكون ممتطياً فرساً أبيضاً وقوياً متحكماً في لجامه. ألا يدعونا سهراب سپهري إلى شرافة اللون الأبيض ؟ لأن كل شيء أبيض ونوراني، والفرس كذلك.
 كل أسطورة تنطوي على عدة رموز. "بيت الصديق" يرمز إلى الأرض الموعودة. البيت يعد بالراحة والنوم والدعة، وهو وسيلة للخلاص من التيه والضياع، والصديق في مفهوم الصوفية هو المعبود، وفي منطق العشّاق هو المحبوب، وفي اصطلاح الأصحاب هو الصديق والصاحب. "الفجر" يرمز إلى البياض حيث مكمن النور والصفاء والطهر. والسؤال يدل على عدم الإطلاع وعلى البحث والتطلّع وعلى الألم والحاجة. حينما "تتمهل السماء" فإنها تهيئ الأرضية لنشر السر وإشاعة النور. "يد العابر" هي عبارة عن مفتاح للعثور على بيت الصديق. "العابر" هو المرشد أو شيخ الطريقة ينقذ الأسرار من الظلمة ويبثها في أسماع الفتى المريد.
سپهري لا يقف على النار –مثل "دانتي"- بل يسرع نحو الصديق وسط ذاك الزقاق المشجر الفردوسي بين إشارات وعلامات الجنة. "غصن النور" يرمز إلى النور نفسه في تأكيد لمضمون النور في الشعر. يوهب "غصن النور" إلى الظلمة. "الصفصافة" تعني الصفاء والطهر. "زقاق مشجّر" رمز للاخضرار والنقاء، وهو يذكرنا بالزقاق المشجر قديماً حيث يكمن اللطف والصدق والحب والعرفان خلافاً لزقاق اليوم. والاخضرار رمز للهدوء والطيبة.
 في هذا الزقاق حيث الصفاء والصدق لا نستبعد أن يكون العشق "أزرقاً" وأن تستبدل الصداقة بطائر محلق. أليس الطائر رمزاً للصدق والصفاء ؟ فمن حق سهراب وهو الشاعر الرسام أن يرى العشق أزرقاً. "البلوغ" هو بلوغ معنوي وفكري وهو في الوقت نفسه بلوغ جنسي. "وردة العزلة" أو "وردة الوحدة" تشير إلى منتهى الجمال، ولأنه يجب قصدها، فوردة العزلة اسمٌ لزقاق يصلح أن يكون سكناً في عرف الصوفية. الورد نفسه يستلزم وجود "نافورة"، نافورة ماء، ماء الأرض، و"أرض الأساطير" مرتبطة بالماء والورد والوحدة أو العزلة. ورد العزلة قد يعني فيما يعني ورد الإشراق وورد الخلوة المعنوية والروحية. "الرهبة الشفيفة" رهبة عرفانية صوفية ونيّرة تدل مسير البحث وعلى وجود سر ينبغي إفشاؤه.
 في هذه الدنيا المجردة من كل شيء سوى الزقاق المشجر والصفاء السيّال الذي يسكن الذهن. و"السيال" صفة تصويرية تدل على الصفاء الذي غمر كل شيء وانساب في كل مكان. و"الطفل" يرمز إلى روح الصفاء وجوهر البحث والخيال وأصالة الطهر. "صنوبرة سامقة" تشير إلى الروح المتعالية للطفل وعظمة تخيله البسيط. "أخذُ الفرخ" هو عمل ملازم للطفل، لكن لماذا من "عش النور" ؟ لأن الطفل المتطلع يعيش في الظلمة، ولكي يعرف معنى النور، يجب أن يقتطف الفرخ من عش النور. النور هو عرفان وإشراق في نفس الآن.
 رغم أن "الفارس" وصل إلى الطفل المتسلق الشجرة وعثر على عنوان النور –وقد يكون الصديق هو ذاك النور- لكن العابر يطلب منه استفسار الطفل : "أين بيت الصديق ؟" طرح هذا السؤال مجدداً له جانب تمثيلي يكمل رمزية الشعر. يعني أن العابر يقول له عليك السؤال دوماً، حتى ولو رأيت النور، الذي قد يكون هو بيت الصديق، يجب أن تبقى دوماً في بحث عنه، وتقطع كل الأودية وتتخطى كل العلائم والإشارات، لا مجال للارتواء في هذا الطريق، ينبغي طلب العطش حتى تتفجر عليك المياه من فرق ومن تحت. حتى المسحة الصوفية التي نلفيها في نهاية هذا الشعر مشحونة ومفعمة بالصفاء الشعري.










الهوامش :
* أستاذ اللغة الفارسية وآدابها والأدب المقارن بكلية الآداب بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة (المغرب).
(1) "صداى پاى آب" (وقع قدم الماء)، مختارات شعرية لسهراب سپهري، مؤسسة انتشارات نگاه، طهران، 1994م، ص : 158.
(2) "حجم سبز" (الحجم الأخضر)، مختارات شعرية لسهراب سپهري، مؤسسة انتشارات نگاه، طهران، 1994م، ص : 232.
(3) رائد الشعر الفارسي المعاصر، ولد سنة 1895م. شغل مناصب حكومية عديدة. نشر أول منظومة له "افسانه" (الأسطورة) سنة 1923م. ترك نيما يوشيج علاوة على شعره، كثيراً من الآثار النقدية والقصصية والمسرحية. توفي سنة 1960م.
(4) شاعرة إيرانية معاصرة، كرست شعرها لمعاناتها الروحية. ولدت في طهران سنة 1934م. وهي اسمٌ متميز في ديوان الشعر الفارسي المعاصر. توفيت سنة 1967م. صدر لها العديد من المجموعات الشعرية.
(5) الرديف في الشعر الفارسي-وخاصة الكلاسيكي منه- هو عبارة عن كلمة أو عبارة تتكرر بعينها في نهاية كل بيت من أبيات الغزلية.
(6) "حجم سبز" (الحجم الأخضر)، مختارات شعرية لسهراب سپهري، ص : 211.
(7) نفس المرجع، ص : 242.