إیران إبان الانتقال إلى العهد الإسلامی
المقدمة :
یعتبر تاریخ إیران فی صدر الإسلام من المراحل المصیریة لهذا البلد، فهذه المرحلة الزمانیة ذات أهمیة بالغة فی تاریخ إیران بسبب تقبلها الدین الجدید. فی الواقع اتخذ محور التاریخ الإیرانی فی هذه المرحلة شکل المنحنی، وقطع علاقته بجزء من میراثه التقلیدی.
إن شکل ماضی المجتمع الإیرانی، الذی ظل نحو ألف سنة یتمتع بوحدة نسبیة، ولکنه تغیر تدریجیا واختلف شکله تقریبا عما مضى. دخول الإسلام والعرب إلى إیران أثر تأثیرا کبیرا وملموسا فی بنیتها السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة وحتى الاقتصادیة، وقد حول ذلک - بصرف النظر عن ایجابیته أو سلبیته ومدته، وحتى العصر الحاضر فی بعض المجالات - مسیر تاریخ إیران إلى وجهة أخرى. وبعبارة أخرى، کانت هذه الدورة من الدورات القلیلة الانتقالیة فی مسیر تاریخ إیران، الانتقال من العهد القدیم إلى العهد الإسلامی. وعلى الرغم من أن هذین المقطعین لا یمکن فصلهما بعض عن بعض فصلا تاما، ولکن بعد قرنین من النزاع والتلاقی الثقافی، شهدنا منذ بدایة القرن الثالث وما بعدها ظهور ثقافة مرکبة ومشترکة إیرانیة - إسلامیة.
وبعد الحیرة الأولیة الناجمة عن سقوط النظام السابق ودخول العناصر الجدیدة التی کان من نتائجه تبدل ثقافی ناجم عن رسوخ العناصر الجدیدة، أو، خلال عملیة، استطاع المجتمع الإیرانی، بتوجیه قواه الخاصة، الحیلولة دون تضادهما .
إن المجتمع الإیرانی، لتمتعه باللیونة والانعطاف اللتین یختص بهما، وبعد قرنین من السیادة غیر الإیرانیة، استطاع أن یحافظ على وجوده ویحول دون اشتداد التزلزل الناجم عن عدم التضام بین عناصر الثقافة فی المجتمع. وبمضی الزمان استطاع الإیرانیون، عن طریق التکیف مع قیم المجتمع الجدید وطرقه المنبثقة عن الدین الإسلامی المبین، الاحتفاظ بکیانهم کقوم قائم بذاته. وبالوصول إلى تعادل جدید بالاندماج الاجتماعی (1) وتداخل الأقوام المختلفة توصلوا إلى نوع من الانسجام الاجتماعی وهویة جدیدة. هذه المرة أیضا ظهر الدین بصفته من أهم مظاهر تجلی الوحدة، تلک الوحدة التی لم تذق المنطقة طعمها منذ عهود الهخامنشیین و الاسکندر المقدونی. کان الدین الجدید بمثابة ظاهرة ذاتیة، وبالتلاقی الثقافی التدریجی(2) بین الثقافتین الإیرانیة والإسلامیة واتحاد وجهتیهما ظهر نوع من الوحدة المنسجمة بین عناصر هاتین الثقافتین، أو قل إن ثقافة جدیدة أخذت بالظهور وولدت بعد القرن الثالث.
خلال القرنین الأولین الهجریین کان یبدو أن الشعب الإیرانی، لتقبله أمواج الفکر الإسلامی، وابتعاده عن بعض العناصر الثقافیة الماضیة من جهة، وعدم اکتساب الهویة الثقافیة الجدیدة (على الرغم من تزاید عدد المسلمین الإیرانیین الجدد) من جهة أخرى، قد أصیب بالتشتت الاجتماعی . وبعبارة أخرى، إن المجتمع الإیرانی، بعد سقوط الساسانیین، لم یکن قد عثر على شکله الجدید وفقد صورته الثقافیة [شریعتی، 1361 ص 31] على الرغم من أنه کان یعتبر جزء من عالم الإسلام، ولکنه، بصفته مجتمعا إسلامیا، لم یکن یعتبر ذا ثقافة إسلامیة [بولت، 1364 ص 8] بما أن جذور نشأة الثقافة والحضارة الإیرانیة - الإسلامیة ترجع إلى کیفیة قبول الإیرانیین الدین الجدید، نواصل البحث بالکلام على هذا الموضوع الذی یتناول رد فعل طبقات الشعب المختلفة لأول مرة فی مواجهة الإسلام والعرب.
المجتمع الإیرانی فی مواجهة الإسلام و العرب :
إذا تجاوزنا عن الإبهامات فی نظام المجتمع الطبقی فی إیران (بما فی ذلک العهد الساسانی) کما تقول کریستین سن أیضا بأن مراتب المقامات والطبقات فی ذلک العهد کانت معقدة جدا ومظلمة [کریستین سن، 1367 هش، ص 121] خاصة أن هجوم العرب المسلمین، وانهیار کثیر من أسس المجتمع من جهة، وأخطاء المؤرخین المسلمین فی معرفة واقع ماهیة مقامات الشخصیات الإیرانیة ومراکزهم، من جهة أخرى، زاد من ذلک الغموض أکثر فأکثر. وبما أن مجتمع المسلمین العرب، بخلاف المجتمع الساسانی، لم یکن فیه نظام طبقی ذو حدود بارزة للتفریق بین الأفراد بعض عن بعض (فی الأقل ابتداء) حتى کان من الصعب أحیانا تمییز العبد من الحر [البلاذری، 1974 ص 383] بناء على ذلک، وقعوا فی الخطأ فی تصنیف صحیح للطبقات الاجتماعیة الساسانیة، مما جاء فی رواة الفتوحات أیضا. مثلا، أطلقوا على کبار الإیرانیین اسم الدهاقین، بل کانوا أحیانا یسمون ملک مدینة أو حارس الحدود دهقانا أیضا [تاریخ سیستان، 1366 هش. ص 81] على الرغم من أن نتیجة التصادم بین النظامین الاجتماعیین الإیرانی والإسلامی کانت الوحدة والانسجام، فان طرح الفکرة العامة عن أن «فتوحات العرب المذهلة فی إیران کانت ناجمة عن استقبال عامة الناس للمهاجمین» [زرین کوب، 1362 هش. ص 14]، ینبغی أن لا یجعلنا نغفل عن جزئیات رد فعل کل من الجماعات المختلفة عند مواجهة العرب المسلمین. طبعا سهولة بلوغ بعض الفتوحات یمکن أن تکون دلیلا على التلاؤم بین الإیرانیین والفاتحین المسلمین. وهذا ناجم، إلى حد ما، عن أن القوة ما فوق الطبقات الحکومیة، أی الطبقات الاجتماعیة - بصرف النظر عن تعارضها واختلاف مصالحها الخاصة - کانت غریبة عن الحکومة، أو بعبارة أخرى، لم تعتبر الحکومة منها. لذلک، عندما ضعفت وتزلزلت الحکومة کانت تبتعد منها، أو تترکها دون دفاع [همایون کاتوزیان، 1372 هش ص 8] مع ذلک فإن میزان بعد کل طبقة اجتماعیة وقربها بالنسبة لمرکز القوة، وکذلک لعوامل أخرى ودوافع تعامل کل طبقة اجتماعیة إیرانیة مع الإسلام والعرب، کان متباینا بعض عن بعض .
یزدجرد الثالث، الملک الساسانی الذی ردَّ منذ البدایة، وبکل عنف ونفور، دعوة المسلمین إلى الإسلام (3) ، کان عند کل هزیمة یتراجع مع المقربین منه خطوة إلى الوراء بانتظار الانتصار. وأبناء الملوک الساسانیین ظلوا، حتى بعد سقوط هذه العائلة، تراودهم فکرة استرجاع سلطانهم. مثلا خسرو، من أحفاد یزدجرد، کان مع حملة الأتراک على ما وراء النهر سنة 110 ه [الطبری، 1987، ج 4 ص 33] القادة والأمراء وکبار رجال الجیش الساسانی ورجال البلاط وقفوا عموما فی وجه جیش المسلمین، لأن وجودهم کان یعتمد على وجود الحکم الساسانی، ولم یکن أمامهم غیر هذا الطریق. إن مقاومة الساسانیین الشدیدة فی أوائل الفتوحات أتت بتحریض من هؤلاء على حد قول البلاذری، منطقة حرب مهران فی النخیلة : «اکتظت الأرض بعظام القتلى بحیث تساوت مع سطح الأرض» [البلاذری، ص 254] ومثال رستم فرخزاد کان نادرا، فی تردده للبدء، بالحرب [الطبری، ج 2، ص 255] وإذا صحت روایة الیعقوبی) فإن میله إلى الإسلام [الیعقوبی، ج 2ص 144] کان ناجما عن معرفته الصحیحة بقدرات الطرفین وظروفهما، أکثر من أن یکون میلا قلبیا نحو المسلمین. وقد جاء فی روایة الدینوری أن رستم، بعد التذاکر مع المغیر بن شعبة، أدرک أن ما یواجهه شیء کبیر (4).
بعد انتصار العرب المسلمین فی نهاوند، لم نعد نرى حربا منظمة بین الجیش الساسانی وجیش المسلمین. إن الثبات الذی شاهدناه فی القادسیة وفی نهاوند لم نجده یتکرر فی مواقع أخرى، بما فیها خراسان. وبتلاشی الجیش الساسانی لم تعد هناک أیة مقاومة، باستثناء بعض قادة الجیش المتحیرین الساعین إلى استعادة مقاماتهم السابقة المنهارة، فکانوا یقاومون العرب عبثا فی بعض المناطق (5). وهکذا انجذب جمع من الجنود الساسانیین - بسبب التعب الشدید من الحرب المستمرة بین دولتهم وجیرانهم ولاتصال أقربائهم بالمجتمع العسکری المسلم - إلى الإسلام بتأثیر وعوده اللافتة (6) ، بالإضافة إلى أملهم فی نیل مقامهم العسکری، التحقوا بالجیش الإسلامی واعتنقوا الإسلام. کان هؤلاء من أوائل الإیرانیین الذین استجابوا لدعوة الدین الجدید. هنالک أدلة واضحة تدل على أن مجموعات من الجیش الساسانی ممن لم یکونوا من ذوی الدرجات العلیا قد التحقوا بالمسلمین، لأنهم لم یکن أمامهم طریق لإدامة الحیاة، فقد جاء أن جیشا من أربعة آلاف جندی من قوات رستم بن فرخزاد، بعد هزیمته فی القادسیة، قالوا:
بما أننا لم نعد مجوسا، فلا ملجأ لنا، وهؤلاء لا یعرفون منزلتنا، فالرأی الصائب هو أن ندین بدین العرب ونعتز بعزهم [البلاذری، 279 و 366] لقد استنتج هؤلاء : «إن إخواننا الذین اعتنقوا الإسلام منذ البدایة کانوا أفضل وأصوب منا» [الطبری، ج 2 ص 283] واستنادا إلى هذه الروایة، فهؤلاء، بعد إسلامهم، ساهموا فی حربی المدائن وجلولاء مع المسلمین.
لقد کان من الأسالیب العسکریة عند المسلمین الاستفادة من قوات الأهالی، فقد کتب عمر إلى عماله على الحدود أن یستعینوا عند الحاجة «بالأساورة» الفرس (أی القادة أو الرماة) وأن یرفعوا الجزیة عنهم [الطبری، ج 2 ص 335] واستنادا إلى هذه السیاسة قام جمع من الجنود منذ البدایة بالاستخدام لدى المسلمین وأعانوهم فی فتوحاتهم. من ذلک قوات الأحنف التی کانت خمسة آلاف جندی، منها ألف جندی من الفرس حدیثی الإسلام [البلاذری، 389] هذه الجماعة التی لم یکن یبدو علیها أی دلیل على تعلقها بالحکومة السابقة، والتی فقدت مورد رزقها بسقوط الساسانیین، أدوا دورا مهما فی هدایة المسلمین نحو فتح سایر النقاط. من هؤلاء جیش «الاسورة» الذی تشکل ابتداء من عنصر غیر إیرانی جمعهم یزدجرد من «سندیان» ومن ثم التحقت بهم حشود من الإیرانیین. کل هؤلاء أسلموا تحت ظروف یذکر تفاصیلها الطبری والبلاذری، ورافقوا أبا موسى الأشعری فی محاصرة شوشتر [البلاذری، 366 و الطبری، ج 2 ص 355] المدافعون القزوینیون، مثل «اسورة» البصرة، أسلموا، مشترطین أن یلتحقوا بمن یشاؤون، فذهبوا إلى الکوفة و دخلوا حلفا مع زهرة بن خویة، وهؤلاء هم الذین أطلق علیهم بعد ذلک اسم «حمراء دیلم» [البلاذری، 317] بعد انهیار العائلة الساسانیة والأمراء العسکریین، فی أول الأمر (خاصة على عهد الخلفاء الراشدین) البنیة الاجتماعیة الإیرانیة لم تتغیر کثیرا، وکل طبقة من طبقات المجتمع، بحسب مقامها ومرکزها الاجتماعی استطاعت بشکل ما أن تتکیف مع الظروف الجدیدة، وعلى ذلک لم یحصل أی تغیر عمیق فی حیاة الناس الاجتماعیة، وإن أصبحت المدینة ودمشق العاصمة بدلا من المدائن. إلا أن الأقویاء المحلیین ظلوا یحکمون إیران مثلما کانوا على أیام الساسانیین. بعض هؤلاء الحکام، سواء حراس الحدود أو الدهاقین، وإن کانوا فی البدایة قد قاوموا القوات العربیة المسلمة، إما لوحدهم وإما إلى جانب القادة العسکریین، وقتلوا أو أسروا (7) ، ولکن، لعدم وجود حکومة مرکزیة ولا میزانیة یستندون إلیها، سرعان ما اضطروا إلى التصالح مع المسلمین(8) ، حتى إن الحکام المحلیین لمنطقة السواد عمدوا، قبل هذا وفی بدایة حملات العرب على الحدود، إلى تهدید یزدجرد بأنه إذا لم یهتم بمصالحهم فی مقابل المسلمین، فإنهم سوف یستسلمون للمسلمین [الطبری، ج 2 ص 252] فی مناطق شرق إیران، مثل خراسان، أسرع الحکام وطبقة الأعیان المحلیین، وخاصة الدهاقین، لعدم وجود ما یدفعهم إلى المقاومة، وکذلک للاحتفاظ بمراکزهم الاجتماعیة وامتیازاتهم الفردیة، ولحاجتهم إلى العرب لیداروا عنهم هجمات الأتراک، إلى طریق المسالمة مع المسلمین، بل بادروا إلى تسلیم المناطق التی کانت تحت نفوذهم إلیهم. من ذلک مثلا، حاکم طوس الذی کتب فی 29 ه رسالة إلى والیی البصرة والکوفة ودعاهما إلى خراسان [البلاذری، 330/الیعقوبی، ج 2 ص 167] على الرغم من أن تسالم شخصیات خراسان مع العرب کان یجری طبقا لشروط المسلمین وضوابطهم، إلا أن ذلک کان مدعاة لأن یصیبهم أقل مما أصاب زملاءهم فی غرب البلاد من ضرر. هؤلاء أیضا لم یکونوا على علاقة طیبة مع الساسانیین، حتى إنهم رفضوا قبول لجوء ملک إیران الهارب [الثعالبی،1368 هش، 474/البلاذری،312/ابن الاعثم، 317]، وأخیرا قتلوه [جردیزی، 1363 هش، 104] فی أخریات أیام الساسانیین کان هؤلاء یتمتعون بنفوذ واسع بحیث إن سقوط الساسانیین لم یحس به أتباعهم فی بدایة الأمر [نولدکه، 1358 هش، 673]، حتى إن بعض المؤرخین اعتبروا من جملة علل سقوط الحکم الساسانی روح الانفصالیة عند الأمراء المحلیین(9). کان هؤلاء معنیین بحفظ أموالهم ومراکزهم أکثر من عنایتهم بالدفاع عن ملکهم وبلادهم، فرجحوا أن یکونوا من دافعی الخراج للعرب، وفی بعض الحالات أن یعتنقوا الدین الجدید لکی یحتفظوا بمراکزهم السابقة فی المنطقة. یستفاد من المسکوکات الباقیة من أحد حکام ناحیة آذربایجان فی أواخر القرن الأول الهجری کیف إنه، باحتمال الحاکمیة، بقی فی منصبه بتبدیل دینه [الحصوری، 1371 هش، 10]، وباندحار کبار الأشراف المرتبطین وحراس الثغور (11) وبقایا العائلات القدیمة، على مراکز أفضل ومقامات أرفع، بحیث أن الاصطخری فی القرن الرابع الهجری یشیر إلى بقایا العائلات القدیمة باسم أهل البیوتات [الاصطخری، 1347 هش، 129] إن الحاجة المتبادلة بین العرب المسلمین و القادة المحلیین، کأهل البیوتات والدهاقین، أدت إلى مزید من التقارب بینهما .
واجه العرب المسلمون فی فتوحاتهم العدید من الأشراف والنبلاء الذین کانوا یحکمون الولایات الداخلیة، ولکنهم فی النهایة یحموا شطر المسالمة، والأهم من ذلک أنهم هرعوا إلى اسندا العرب ضد منافسیهم فی منطقتهم (12)، بل إنهم قبل ذلک، على عهد النبی ( صلى الله علیه و آله وسلم) رجح عدد من نبلاء البحرین وفریق من أتباعهم ترک دینهم الزرتشتی واعتناق الإسلام [البلاذری، ص 89/ابن الاعثم، ج 1 ص 74] إن الدهاقنة الذین کانوا فی السابق یقومون بجبایة الخراج وجمعه و «کانوا بمثابة العجلات الضروریة فی الدولة» [کریستین سن، 132] وکانوا أعلم من غیرهم بدخل المنطقة، أبقوا، عموما، فی مناصبهم، تحت حکم العرب، بصفتهم جباة مالیین فی النظام الجدید، و فی بعض الحالات أظهروا حسن خدمتهم للمسلمین بالقیام بالتجسس لهم (13). بلغ مرکز الدهاقین السیاسی والاجتماعی فی النظام الجدید مبلغا حدا بزعماء القبائل العربیة إلى الاعتراض على تلک المکانة الرفیعة التی منحت للدهاقین وانتقدوا الحکام العرب على ذلک [الطبری، ج 3 ص 263 و 264] إن الانعطاف نحو الإسلام فی المجتمع الإیرانی کان أکثر ما یحصل من جانب هذه الطبقات، فالبلاذری یکرر فی مواضع متعددة اعتناق الدهاقین الإسلام وخاصة فی «السواد» (14). إن المهم فی هذا هو أن منطقة «السواد» من حیث المکان والزمان، شهدت أولى المواجهات بین المسلمین والإیرانیین. لذلک لا یمکن القبول کلیا بأمثال هذه الآراء القائلة بأن «النجباء والأشراف والقادة والأعیان الإیرانیین کانوا یعتنقون الإسلام کخطوة احتیاطیة» [اشبولر، ج 2، 1364 هش .241 و 274/اربری، 1336 ص 138]، وذلک لأن هذه النظرة لا تصدق على جمیع المناطق بصورة متشابهة. کل منطقة من مناطق إیران أظهرت رد فعلها الخاص المتناسب مع ظروف تلک المنطقة وأحوالها، فمثلا، فی منطقة ما وراء النهر وغیرها، أعفی الناس من دفع الجزیة فدخلوا فی الإسلام أفواجا، الأمر الذی خالفه الأمراء المحلیون [ نرشخی، 1363 هش، 82/الطبری، ج 3، 592 و ج 4 ص 29] وفی مناطق أخرى، کالسواد وخراسان، کان الدهاقین متقدمین فی تغییر دینهم. فی الواقع، کان هؤلاء هم أول من أدرکوا أنهم تحت ضوء الدین الإسلامی یستطیعون أن یواصلوا سلطتهم على أهالی الأراضی التی تقع تحت حکمهم، وهکذا أوجدوا، بالاتفاق مع أشراف العرب، طبقة جدیدة فی المجتمع .
سبق القول أن الکثیر من اعتناق دهاقین المناطق الغربیة والوسطى من إیران الإسلام قد حصل فی أوائل الفتوحات الإسلامیة. وفی خراسان والمناطق المرکزیة حصلت أکثریة الفتوحات سلمیا، وفی أحیان أخرى کانت بطلب من الدهاقین والحکام المحلیین أنفسهم، مما سهل وعجل دخولهم الإسلام. وعلى الرغم من أن ذلک کان بدوافع مختلفة، کتجنب هوان دفع الجزیة، أو المحافظة على المراکز السابقة، ففی کثیر من الحالات کانت المبادرة من جانب هؤلاء أنفسهم. من ذلک ما حدث فی أصفهان حیث استسلم عدد من النبلاء واخذوا یدفعون الجزیة، ثم توقفوا عن دفع الجزیة واعتنقوا الإسلام [البلاذری، 310] الأمراء والدهاقین الذین کانوا معفیین من دفع الجزیة أیام الساسانیین، رأوا فی دفعها للعرب نوعا من التحقیر والتقلیل من شأنهم، الأمر الذی کان من دوافع إسراع هؤلاء بالدخول فی الإسلام.
من الطبیعی القول بأن اعتناق الشخصیات الإسلام کان دافعا قویا لتوجه العامة، وخاصة الفلاحین، إلى الإسلام. فی الواقع، کان الفلاحون آخر طبقة اجتماعیة اتصلت بالعرب المسلمین، وذلک لأن إدارة شؤونهم کانت عادة بید أرباب الأرض والملاکین، ولذلک لیس هناک ما یدل على أنهم قد دخلوا الإسلام فی أوائل الفتوحات، وخاصة فی ناحیة «السواد».
مع ذلک، فان هذه الفئة، على الرغم من تعصبهم الدینی بسبب حیاتهم المغلقة، یبدو أنهم، لاضطهادهم على أیدی المزدکیة وعدم تحقق أی من آمالهم من جهة، والأمل فی نیل حال أفضل، رحبوا بمجیء العرب [التون، 1367 هش، 16]، على الأخص لأنهم لم یشترکوا فی الحرب ضد العرب، أمر أبو بکر بعدم التعرض لهم وجعلهم تحت حمایتهم [الطبری، 175]، یرى فیلیب حتی أن استقبال الفلاحین الآرامیین العراقیین للمجاهدین المسلمین کان أحد العوامل فی انتصارهم [فیلیب حتی، 1344 هش، 200]، بولت یرى أن من بین مختلف الطبقات الاجتماعیة الإیرانیة، کان فریقان فی العهد الأموی أکثر من غیرهما میلا إلى اعتناق الإسلام، أسرى الحرب، وأدنى طبقات المجتمع کالفلاحین الذین یعملون فی أرض أربابهم [بولت، 44]، خاصة کان الأعضاء من الجزیة دافعا قویا لهذه الطبقة لتغییر دینهم. أما الأمراء والنبلاء المحلیون، خاصة فیما وراء النهر، على الرغم من تعاونهم مع الأمویین لم یکونوا یریدونهم یمیلون إلى الإسلام، إذ فضلا عن انخفاض دخلهم لأنهم (الأمراء) کانوا مسئولین عن ذلک، فقد کان یحط من منزلتهم الاجتماعیة. «دهاقین ما وراء النهر کانت لهم ید فی حفظ مجتمع النبلاء، لذلک لم یکونوا قادرین، أمام انتشار الدین الجدید - الذی لم یکن قد فقد بعد أسلوبه الدیمقراطی - أن یکونوا لا أبالیین» [بارتولد، ج 1، 1366 هش، 420] لذلک فهم أکدوا تجدید جبایة الجزیة من جدیدی الإسلام، وحتى منع الطبقات الدنیا من اعتناق الإسلام فی تلک الناحیة، لکی یؤسس العرب [نرشخی، 82/الطبری، ج 3، 592، و ج 4 ، 29] تدریجیا مع النبلاء الإیرانیین فی خراسان وما وراء النهر، جبهة واحدة ضد جدیدی الإسلام وأهل الذمة والحرکات الداعیة إلى العدالة، والتی کانت تدعو إلى التساوی بین المسلمین، عربا کانوا أم عجما. والظاهر أن الدافع الآخر للأمراء المحلیین - غیر انخفاض الدخل - لمعارضة نشر الإسلام کانت المصالح السیاسیة وإرادتهم فی الإبقاء على نفوذهم، الذی کان یتعرض للخطر فی حالة اتساع سلطة المسلمین وانتشار الإسلام [دنت، 1358 هش، 175] فریق آخر من المجتمع الإیرانی الذی کان یتمتع بنفوذ نسبی، کان یتألف من أمناء السر والمدیرین المالیین، الذین ازدادت أهمیتهم بعد إصلاحات انوشیروان وترکز نواة الأمور الأصلیة فی البلاط وتقویة الحکومة. ولکن بعد سقوط الساسانیین، وتشتت النبلاء، وحاجة العرب إلیهم لتنظیم أمورهم، وضعوا تخصصهم ومهارتهم فی الشؤون الإداریة تحت تصرف المسلمین وأحرزوا مقاما أرفع فی النظام الإداری، وعلى الرغم من أن ضرورة وجودهم لم تکن بقدر ضرورة وجود الدهاقین. ولکن الاستفادة من المبادئء والأسالیب المالیة المحلیة من جانب العرب ووضع أسس حکومتهم فی کثیر من الأحیان على غرار الحکومة الساسانیة(15) زادت من ضرورة وجود الأمناء العامین والمدیرین المالیین المحلیین، بحیث أن نظامی عروضی، فی القرن السادس الهجری، فی تقریره عن أمانة السر على عهده، یماثل کل التماثل واجبات أمناء السر فی زمن الساسانیین [کریستین سن، 154] لذلک، فی القرون الهجریة الأولى کان معظم کبار رؤساء المؤسسة الإداریة وأکثر أمناء السر والمستشارین والموظفین والمشرفین وعمال الحکومة ورجالات العرب، من الموالی [دنت، 74] على أی حال، على الرغم من أن طبقة الأمناء الساسانیین أسرعوا نحو المسلمین المنتصرین، إلا أنه لم تکن ثمة ضرورة لاعتناقهم الإسلام، وکثیر منهم لم یسلموا (16)، ففی عهد نصر بن سیار، آخر حاکم أموی على خراسان، کان أکثر أمناء السر فی تلک المنطقة من الزرتشت [فرای، 494]، وإن کان هناک منهم الإیرانیون المسلمون، إذ أن والی العراق سنة 124 ه أمر حاکم خراسان أن لا یستخدم الأمناء السر المسلمین [ فرای، 495] فی المراحل التالیة کان التجار هم الذین سعوا بشکل ما إلى التکیف مع الوضع الجدید. إیران، التی کانت منذ القدیم نقطة تلاقی الحضارات، والأهم من ذلک، أنها کانت الطریق الاقتصادی الرئیس بین الشرق والغرب، احتلت مکانة مرموقة فی الاقتصاد الدولی. وفی الداخل أیضا کانت إحدى مصادر الدخل للدولة من التجار. وباتساع رقعة الفتوحات الإسلامیة، امتدت الحدود السیاسیة والجغرافیة (بالقیاس إلى المجتمع الساسانی المحدود)، هذا بالإضافة إلى حیلولة المسلمین دون هجمات الأقوام الشرقیة (الترک) على خراسان وما وراء النهر، کل هذا اوجد ظروفا أفضل للتجار والکاسبین. وفی هذه الحالة منح الإسلام امتیازات للتجار وأرباب الحرف، بینما کانت الأحکام الفقهیة الزرتشتیة تضیق علیهم [باسورث، 1362 هش، 166] کما أن الذین أصابوا ثروات ضخمة من الفتوحات العربیة، التی کانت ذات أهداف اقتصادیة فی العهد الأموی، ومن تبادل الغنائم وازدهار التجارة، إذ إنهم لم یکتفوا بمصاحبة العرب، بل تکفلوا أحیانا بدفع مصاریف إرسال الجیوش العربیة (17). وکان من نتائج ذلک أن أرسلوا القوافل التجاریة إلى الصین وغیرها وأصابوا ثروات کبیرة [بارتولد، ج 1 ص 403]، وکانوا، لخصائصهم المهنیة، یحملون وجهة نظر متفتحة نسبیا خالیة من التعصب الدینی الذی کان موجودا فی الطبقات الاجتماعیة الأخرى، حتى إنهم کانوا یتعاملون مع الدین تعاملا تجاریا. ولعله لیس بعیدا عن الصواب القول بأن «الأکثر ثقافة، والأوفر مالا، وحملة روحیة الوطنیة العالمیة، والمغامرین یکونون هم المبدعین أو أنهم الأسرع فی تقبل الإبداع والتجدید» [بولت، 52] إن اتساع المدن وازدهار الأصناف اللذین أخذا یعزفان نغمة التقدم [الاصفهانی، 1367 هش، 44 وما بعدها/پیکولوسکایا، 1367 هش، 374 و 391]، قد ازدادا بعد الإسلام زیادة مضاعفة لأسباب مختلفة، مثل استقرار القبائل العربیة فی إیران، ونزوح أهل القرى عن مزارعهم وتوطنهم فی المدن، فکان ذلک مدعاة إلى ازدهار العمل والتجارة، ومن ثم تحسن أحوال أصحاب الحرف والکسبة الذین کانوا قبل ذلک تحت ضغط طبقة الأشراف والنبلاء، دون أن یتمتعوا بأیة مکانة فی النظام الطبقی الساسانی، لذلک فهم لم یخسروا شیئا بانهیار الحکم الساسانی .
العمال الزرتشتیون، الذین کانوا هدفا للتحقیر بصفتهم نجسین، وجدوا أن تحررهم من هذه الحالة والضغط النفسانی یکمن فی قبول الإسلام [اشبولر، ج 1، 241/سیرتوماس، 1358 هش، 150] لأن هؤلاء - بخلاف أهل البیوتات والعوائل الشریفة ورجال الدین کانوا متعصبین لمجوسیتهم - لم یکونوا یؤمنون کثیرا بالمؤسسات المجوسیة وعقائدها وأوامر رؤسائهم. ولما کانت هذه الطبقات، خلال اشتغالهم بأعمالهم الیومیة واحتکاکهم الدائم بالقوانین والأوامر الزرتشتیة فی تجنب تلویث النار والتراب والماء، وکانوا فی نظر الزعماء الزرتشتیین لا أبالیین وضعفاء العقیدة، أدرکوا أن الدین الجدید الذی جاء به العرب ینسجم مع حیاتهم وطیب المذاق عندهم [زرین کوب، 373] لهذه الأسباب لم تجد جموع الشعب المضطهد فی المدینة ما یحملهم على مقاومة المسلمین، وفی أحیان کثیرة کانت أبواب مدینة أو ناحیة تفتح فی وجه العرب بتوجیه وهدایة من هؤلاء، ففی حرب المدائن کان أحد الزرتشتیة هو الذی أعان المسلمین على الانتصار [الدینوری، 134]، وعند محاصرة شوشتر «طلب أحد الفرس الأمان وقرر أن یدل المسلمین إلى مواضع النفوذ إلى المشرکین، وهو نفسه اعتنق الإسلام على شرط أن یعین هو وأبناؤه فی وظائف» [البلاذری، 373/ابن الاعثم، ج 1ص 279] إجمالا، لعب المضطهدون فی المدینة دورا مهما فی تمهید الطریق للوصول إلى السلام وفی حمل المجتمع الإیرانی على قبول الإسلام، کما حصل فی أصفهان حیث ضغطت هذه الطبقة على حاکم المنطقة - على رغمه - لیقبل السلام مع العرب والتسلیم لهم فقال: یا أهل أصفهان، لقد رأیتکم أدنیاء، وإن ما فعلته کان یلیق بکم [البلاذری، 309] وفی نیشابور أیضا «طلب وکیل إحدى المحلات الأمان ورضی أن یدخل المسلمین إلى المدینة، فأعطی الأمان، فأدخلهم الرجل لیلا إلى المدینة وفتحوا بابها» [البلاذری، 395] لذلک یرى لمتون أن السبب فی سرعة انتصار العرب وسهولته هو أن الإسلام کان یعد عامة الناس بانتشالهم من حیاة الاضطهاد والتعاسة التی کانوا یرزحون تحت وطأتها، فی الوقت الذی کان النظام القدیم قد سقط من أعین الناس بحیث أن ذلک لم یحرک فیهم روح الوفاء [لمتون، 1362 هش، 62] یبدو أن فی العهد الأموی کانت الطبقات الدنیا أشد رغبة فی تغییر المجتمع، وضغط السیاسات الإجرائیة والمالیة الأمویة قد زادت من إدراکهم السیاسی إلى درجة أنهم فی میلهم إلى الإسلام کانوا ضد الأمویة (العلویة، والخوارج، والمرجئة) کریستین سن تشیر أیضا إلى إقامة حکومة للعامة بعد سقوط الساسانیین [کریستین سن، 537] أما رد فعل طبقة رجال الدین المجوس فی مواجهة العرب، فإن المصادر الموجودة تحوی القلیل جدا، ففی النواحی الغربیة من إیران، وخاصة منطقة السواد، وبالنظر لضعف نفوذ الزرتشتیین هناک، لا نقرأ أی خبر عن حصول مواجهة لرجال الدین المجوس مع الفاتحین العرب، ولا أی تحرک دینی آخر علیهم. کذلک الأمر فی ما وراء النهر وترکستان لا نجد لرجال الدین أی دور فی القتال ضد الفاتحین [بارتولد، ج 1 ص 402] من البدیهی أن صمت المصادر عن هذا الأمر لا یعنی سکوت هذه الطبقة فی وجه أقوام فضلا عن محاربتهم لهم سیاسیا وعسکریا، فإنهم حاربوهم عقائدیا أیضا، ولهذا السبب بالذات واجه العرب مشاکل کثیرة فی فارس حیث کان المرکز الرئیس للزرتشتیة، کما ثار عدد من المدن، مثل اصطخر مرات عدیدة ضد سلطة العرب، بحیث أن ابن عامر، القائد العربی «أقسم أنه سیقتل من أهل اصطخر حتى یجری الدم» [ابن البلخی، 116] وفی العهد الأموی، وامتدادا لهذه السیاسة، أمر زیاد بن سمیة، حاکم العراق، عبید الله بن أبی بکرة، أن یضع السیف فی رقاب رجال الدین فی فارس وإن یخرب معابد النار [الجاحظ، ج 2، 1402 (1982) 177] مع ذلک، فإن الوقوف بوجه العرب لم یکن بدوافع دینیة بقدر کونه ذا دوافع سیاسة واجتماعیة. إن اتکاء رجال الدین الزرتشتیین على الحکومة الساسانیة وتداخل بعضهم فی بعض کانت نتیجته أنه إذا انهار جانب انهار الجانب الآخر معه. إن مقام طبقة رجال الدین، کان على قدر من البروز، خاصة فی ولایة فارس، وحتى فی أواخر أیام الساسانیین، بحیث أنه عند دخول العرب المسلمین إلى تلک المناطق قرر أحد حکام المنطقة اللجوء إلى الصلح وأمضى معاهدة السلام مع العرب [البلاذری، 380] أما فی النظام الجدید حیث لا ملوک ولا الامتیازات القدیمة للنبلاء ورجال الدین والطبقات الممتازة الأخرى، فلم تعد هناک حاجة إلى الزعیم الدینی لیضع التاج على رأس الملک، ولا إلى أعوانه وأنصاره.
على الرغم من اتجاه الناس تدریجیا نحو الإسلام فی القرن الأول الهجری، بقی الدین الزرتشتی رائجا فترة طویلة من الزمن، بعد انقراض الساسانیین، فی بعض النواحی، وخاصة فی فارس حیث نرى فی القرن الرابع الهجری «کان المجوس یتجولون هناک دون علامة فارقة، وتجری آدابهم»(18) [المقدسی، ج 2، 1360هش، 640] کما استمر رجال الدین الزرتشتی العادیون فی حیاتهم الاجتماعیة والدینیة، وعلى الرغم من أن درجة نفوذهم ومرکزهم السیاسی تضاءل یوما بعد یوم. فإنهم، بصفتهم حفظة الروایات والشعائر الوطنیة، ظلوا یتمتعون بنفوذ معنوی غیر قلیل، وخاصة کبار الرجال الذین کانوا زعماء دینیین والمحافظین على الدین. فی الحقیقة، بعد القضاء على الملک، ولم یبق النبلاء والأشراف على قوتهم السابقة، أصبح الزعیم الدینی هو الرئیس الحقیقی للإیرانیین [صدیقی، 1372 هش. ص 88] وهکذا نجد فی مناطق مثل اصطخر وسیستان الشخصیات الدینیة الکبیرة من جملة معاونی الحکام ویسیرون معهم جنبا إلى جنب فی محاربة الفاتحین المسلمین فی البدایة، أو یتفاوضون معهم، وأخیرا یسیرون فی طریق التصالح مع المسلمین(19). وهکذا یبدو أن عنصر القیادة الزرتشتیة فی سیستان کان باقیا خلال القرن الأول الهجری [پاسورث، 1370 هش. ص 58] وفی دماوند کان مقام زعماء الدین «المغان» ما یزال باقیا عند الفتح الإسلامی وحتى بعد قرن ونصف من الهجرة [کریستین سن، 141] مما یدل على عدم المس السریع بنظام الدین الزرتشتی بعد سقوط الساسانیین، ومن ذلک الإجراءات الانفعالیة للنظام الدینی الزرتشتی فی القرن الأول الهجری للاستجابة لمقتضیات الزمان والتکیف معها، والحضور فی المناظرات الدینیة فی بلاط الخلفاء [محمدی، 1374 هش. ص 50] والسعی لإظهار دین زرتشت على أنه دین توحیدی، وتنزیهه عن أفکار الدین (الزروانی) وصفة عبادة النار، واتخاذ (افسنا) بصفته کتاب زرتشت السماوی، وکذلک تحفیز المسلمین وإعانتهم ضد المانویین وأصحاب البدع ومن ذلک حرکة «به آفرید». عن طریق کل ذلک کانوا یریدون توطید علاقتهم بالمسلمین لکی یکونوا فی ظروف أفضل للبقاء وللإبقاء على دینهم. زرتشتیة سیستان، مثلا، کانوا یقولون للمسلمین:
إننا نعبد الله. أما معبد النار والشمس عندنا فلیسنا لکی نقول أننا نعبدهما، بل هما بمثابة المحراب ومکة عندکم [تاریخ سیستان، 92] وفی الوقت الذی لا معلومات لدینا عن تغییر رجال الدین الزرتشتیین دینهم فی القرن الأول الهجری، هناک أخبار عن أن من بین البوذیین فی شرق إیران اعتنق بعض رؤسائهم الإسلام، کالبرامکة.
الخلاصة :
إن المناوشات العسکریة، وإلى جانبها العلاقات التجاریة، بالإضافة إلى التجاور بین العنصرین العربی والإیرانی الناجم عن استقرار القبائل العربیة فی إیران، کان لها تأثیر تدریجی فی الأبعاد الثقافیة أیضا. وعلى الرغم من أن الأهالی لم یکونوا، فی بعض المناطق، فرحین لاستقرار العرب بین ظهرانیهم، وأنه کانت تحدث بینهم بعض الاحتکاکات أحیانا، ولکنهم فی المجموع کانوا قد قبلوا بوجود العرب إلى جانبهم ولم یعتبروه أمرا مذموما. مثلا، نظرة أهل «سغد» إلى العرب کانت تقول :
هؤلاء القوم قد امتزجوا بنا ونحن باقون معهم، وهم فی أمان منا ونحن فی أمان منهم [الطبری، ج 3 ص 596] لقد کان لحضور المسلمین فی إیران أکبر الأثر على امتداد تاریخ إیران، إلا أن هؤلاء سرعان ما تکیفوا (20) مع المحیط الجدید. فعرب خراسان، مثلا، اصطبغوا بالصبغة الإیرانیة إلى حد کبیر، کالزواج من الإیرانیات، وارتداء (البنطلون)، والاحتفال بالنیروز وبالخریف، وتعلموا الفارسیة فهما وتکلما [ یوسفی، 1368 هش، 53] إن استعمال العرب اللغة الفارسیة فی تعاملهم مع الإیرانیین یعتبر من أسباب انتشار هذه اللغة فیما وراء النهر. کما أنه فی ناحیة مثل ناحیة قم، حیث فرض العرب أنفسهم على الأهالی برغمهم وأخرجوهم من المدینة، ولم یحدث أی تقارب بین العرب والإیرانیین حتى أواخر عهد الأمویین [فراغنر، مجلة دراسات تاریخیة، العدد 3، 124] وبعد فترة من الزمن وقعوا تحت تأثیر الثقافة المحلیة وأصبحوا من الفرس. یقول ابن حوقل فی القرن الرابع الهجری کان جمیع أهل قم بدون استثناء من الشیعة، وکان معظمهم من العرب الناطقین بالفارسیة [ابنحوقل، 1366هش. 113] وبالإضافة إلى اللغة واللباس والغذاء، کان العرب أکثر تقبلا للشؤون الدیوانیة والإداریة لافتقارهم إلى التخصص فیها، والرؤساء العرب کانوا یمیلون إلى طراز حیاة الأشراف الإیرانیین، وکانوا أحیانا یرجحونه على عاداتهم، حتى إن أمیرا متعصبا کالحجاج کان یتعمق فی بحث الآداب والرسوم الإیرانیة [ابن خلدون، ج 1، 331] أثناء ذلک کان لتضاؤل دخل العرب المهاجرین لانتهاء عهد الفتوحات فی أوائل القرن الثانی الهجری، ومن ثم انخفاض أمواج المهاجرة، وانحطاط مراکزهم الاجتماعیة، یضاف إلى ذلک اندلاع نیران التناحر القبائلیة بینهم، کل واحد من هذه الأمور کان عاملا مهما فی تقریب المهاجرین إلى أهل البلد .
قابلیة الاقتباس الثقافی لم تکن من طرف واحد، فالإیرانیون، على الرغم من محافظتهم على اعتقاداتهم ورسومهم القدیمة، اخذوا من العرب بعض عناصر ثقافتهم، کاللغة العربیة وأصول الدین التی کان العرب حملتها، إن تأثر بعض الإیرانیین حدیثی الإسلام کان من الشدة بحیث إنهم لم یترکوا دین آبائهم فحسب، بل أصبحوا خصوما لماضیهم وراحوا یذمونه، بل غیروا أسماءهم ونسبهم، حتى إن بعضهم نسبوا أنفسهم إلى أصل عربی مثل إسحاق بن إبراهیم [المسعودی، 1365 هش، 101] وتأثرت اللغة الفارسیة تأثرا کبیرا باللغة العربیة التی قامت بدور مهم فی المحافظة على وحدة الأمة. والأهم من ذلک کله، بدخول العرب والإسلام إلى إیران تحول ذلک المجتمع المغلق القلیل الارتباط الساسانی إلى جزء من حضارة ومجتمع کبیر مفتوح ذی تحرک اجتماعی لافت للنظر، وأصبح وارث جمیع الحضارات التی سبقته، کالیونانیة والسامیة والإیرانیة والسریانیة والرومیة وغیرها. إن وجود المجتمع الإیرانی إلى جانب مجتمع القبائل العربیة المهاجرة، فضلا عن تعایشهما وتبادل التعامل التجاری فیما بینهما، أدى إلى قیام الإیرانیین بإجراء مقارنة بین نظامی الحکم الإسلامی وملوک العهد الساسانی، وکان من نتائج ذلک التأثیر والتأثر المتبادلین على الصعیدین الثقافی والدینی بین الطرفین .
خلال ذلک کان الانتشار التدریجی للإسلام بین الإیرانیین، ووجود بعض التشابه بین العقائد الزرتشتیة والإسلامیة(21)، وکذلک التعارف النسبی القدیم بین القومیتین، کل ذلک ساهم فی عملیة التوسع الثقافی، وحال دون نزول ضربة ثقافیة (22) مفاجئة على أی من الطرفین .
قام الإیرانیون حدیثو الإسلام بدور کبیر وأساس فی أثمار الثقافة الإسلامیة وعلومها. وهم، بتعصبهم للدین الجدید - وهو من طبیعة حدیثی التدین - فاقوا العرب على کثیر من الأصعدة. إنهم، بصفتهم حلقة وسطى، قاموا بالفصل بین الإسلام والعرب، واوجدوا الانسجام بین الفکرین الإیرانی والإسلامی، وکان لهم دور بارز فی الارتقاء بهما، وعقدوا الأواصر بین الماضی القدیم والدین الجدید. واستنادا إلى نظرة الإسلام اللاطبقیة، ولخروج العلم من احتکار طبقة معینة، أصبحوا بعد قرون رواد الثقافة الإسلامیة، تلک الثقافة التی، وان ترعرعت فی أحضان الإسلام، إلا أنها لم تکن ذات أواصر قویة بالعرب. فإذا کان المقصود من «الإسلام الإیرانی» - وهو ما یقیم له بعض الباحثین وزنا کبیرا - هو أن الإیرانیین قد فسروا الإسلام ضمن إطار عنصری وقومی خاص، فهو کلام لا اعتبار له. کما أن القول بأن «الدین الذی وصل من الفاتحین العرب إلى الإیرانیین اصطبغ هنا باللون الإیرانی واتخذ اسم التشیع، وتمیز عن مذهب أهل السنة» [معین، 1355 هش، 2] لا ینطبق تماما مع الحقائق التاریخیة. ولکن الرأی القائل بأن الأمة الإیرانیة، بما لدیها من نبوغ، أخرجت الإسلام من الإطار الدینی القومی العربی، ورفعت من صبغته العالمیة [اشبولر، ج 1، 239] یبدو متینا .
إن تشکل حضارة عظیمة وجدیدة فی العالم باسم «الحضارة الإسلامیة» ذات الاتجاه العالمی أصلا، وإن ورثت، فی الواقع، من حضارات سایر الأقوام والملل، حال دون أن یتحول الدین الإسلامی، مثل الزرتشتیة، إلى دین حضارة ومجتمع راکد مغلق .
عل کل حال، بما أن الظهور العملی للتأثیرات المتبادلة بین الدینین، وبتعبیر غیر صحح عن ظهور إسلام إیرانی (بزعم أن خصائصه الثلاث هی: نهضة التشیع، والعرفان (التصوف) والإیمان بالتقدیر) [ آربری، 1366 هش، 263] ینکشف من القرن الثالث وما بعده، فإن دراسته أکثر من هذا خارجة عن أهداف هذه المقالة.
الهوامش :
1. الاندماج الاجتماعی ناجم عن التقارب بین مختلف العناصر تدریجیا عن طریق العلاقات الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة المتبادلة .
2. أی الاتصال بین مختلف الثقافات والنتیجة الناجمة عن هذا الاتصال .
3. انظر:
الیعقوبی: تاریخ الیعقوبی، ج 2، 1960 ص 123، دار صادر، بیروت .
البلاذری: فتوح البلدان، تصحیح رضوان محمد رضوان، 1978 ص 258، دار الکتب العلمیة، بیروت .
ابن الاعثم: الفتوح، ج 1، 1986 ص 159، دار الکتب العلمیة، بیروت .
قارن ذلک مع رد خسرو پرویز على رسالة النبی (صلى الله علیه و آله وسلم) فی کتاب «فارسنامه» لابن البلخی، برعایة گای لیسترینج، ط 2، طهران، 1363 هش، ص 106، دنیاى کتاب .
الدینوری: الأخبار الطوال، 1888 ص 128، لیدن، بریل .
4. مجمل التواریخ والقصص لمؤلف مجهول، برعایة ملک الشعراء بهار، طهران، بلا تاریخ، ص 272، انتشارات کلاله خاور. جاء فیه أن رستم کان منجما وکان یعرف نتیجة الحرب .
5. حول تمرد (قارن) انظر:
الطبری: تاریخ الأمم والملوک، ج 2 وقائع سنة 32 ه . ص 468.
وحول تمرد ماهک بن شاهک فی اصطخر، انظر، ابن الاعثم، المصدر السابق، ج 1 ص 337.
6. لاحظ تأثیر الشعارات المغیرة المطالبة بالمساواة فی بلاط رستم، فقد قال الدهاقنة:
والله قال قولا جعل عبیدنا یمیلون إلیه أبدا [الطبری: وقائع سنة 14 ه، ج 2 ص 261]
7. کمثال انظر: [الدینوری، 123/الطبری، وقائع سنة 13 ه، ج 2 ص 225/الیعقوبی، ج 2 ص 131/البلاذری، 242 وما بعدها و336]
8. کمثال انظر: [الدینوری، 133/الطبری، وقائع سنة 13 ه، 226/البلاذری، 265/ابن الاعثم، ج 1 ص 337]
9. انظر: [بطروشفسکی، ایلیا ولویج، اسلام در ایران، ترجمة کریم کشاورز ط 7، 1363 هش، 42، طهران، انتشارات پیام ] مشایخ فریدنی ، آذرمیدخت، مرو در دوره خلفاء راشدین (من سقوط الساسانیین حتى بنی أمیة مجلة الأبحاث التاریخیة مرو نامه) السنة الثانیة، العدد 6 و 7 خریف 1371 هش، 137 و 141]
10. لابد من الإشارة إلى ان ثروات الدهاقین ومقاماتهم فی مختلف نواحی هذا البلد الواسع کانت متباینة، لذلک فان دهقانا معتبرا فی ناحیة ما کان یعتبر مجرد مزارع فی ناحیة أخرى [نولدکه، 1358 هش، 662] فی کتابات بارتولد، لفظة دهقان کانت تطلق فی الوقت نفسه على الإقطاعی العادی، وأبناء الملوک، وملاک الأرض والحکام [بارتولد: ترکستان نامه، ج 1، ترجمة کریم کشاورز، ط 2، 1366، 403، طهران، آگاه]
11. على الرغم من ان معنى «مرزبان» هو حارس الثغور، ولکنه یعنی تقریبا معنى «ساتراب» الذی کان سائدا فی عهد الهخامنشیان [نولدکه، 1358 هش، 191]
12. انظر: [ الطبری، وقائع سنة 22ه، ج 2 ص 385/الدینوری، 122 (فی معاونة بسفروخ، حارس ثغر الأنبار، لمثنى بن حارثة، على تجار الحیرة/) ابن الاعثم، ج 1 ص 338]
13. [گردیزی، 1363 هش، 230] بعض المؤرخین یرون أن خیانة هذه الطبقة کانت من أسباب سقوط السامانیین [زرین کوب: إیران بعد از اسلام] ط 3، امیر کبیر، 1362 هش، 198] وهذا بالطبع من السذاجة فی تحلیل الأحداث .
14. انظر [إسلام الدهاقین فی المرحلة الأولى . البلاذری، 238، 265، 310]
Welhausen Julias, The Arab Kingdomand Its Fall . Trams: Margart Geaham Wair, Corzonpress, London,1973,p.493.
انظر أیضا: فلوتن، فان: تاریخ شیعه وعلل سقوط بنی أمیة، ترجمة مرتضى الهاشمی الحائری، ط 1، طهران، اقبال، 1325 ه . ش، 42.
15. بقی دیوان الخراج والمال بعد الإسلام کما کان قبل الإسلام. دیوان العراق کان یکتب بالفارسیة ودیوان الشام بالرومیة. أول من لفت نظر عمر إلى أهمیة الدیوان کان هرمزان [ابن خلدون: المقدمة ترجمة محمد پروین گنابادی، ج 1 طهران، علمی وفرهنگی، 1366 هش، 466]
16. مثلا، الفضل بن سهل، وزیر المأمون المشهور والذی کان من أسرة معروفة، إنما أسلم على ید الخلیفة سنة 190 ه [انظر: فرای، ریچارد، تاریخ إیران من الإسلام حتى السلاجقة، کمبریج، ج 4، ترجمة حسن انوشه، ط 1، طهران، امیر کبیر، 1363ه . ش، 495]
17. انظر [ الطبری، وقائع سنة 77 ه، ج 3 ص 468/تاریخ سیستان، 86 (مساندة التجار لجیش المهلب]
18. الاصطخری، فی القرن الرابع، یقول: «لم یبن للمجوس تحت ولایة الإسلام مثلما بنی فی فارس، لأنها کانت دار ملکهم». الاصطخری، المسالک والممالک، لرعایة ایرج افشار، بنگاه ترجمه ونشر کتاب، 1347 هش، 121.
19. انظر: [ابن الاعثم، المصدر السابق، ج 1 ص 315 و 339/تاریخ سیستان، ص 82] کذلک یذکر المبرد مساندة آزادمرد بن الهربذ، رئیس مدینة فسا، لقوات الخوارج فی الثمانینات الهجریة [المبرد، أبو العباس: الکامل فی اللغة والأدب، ج 3، القاهرة، بلا تاریخ، ص 226]
20. التکیف یعنی کیفیة تعدیل أفعال المرء لتنسجم مع مقتضیات العالم الاجتماعی فی الخارج .
21. إقامة الزرتشتیة الصلاة خمس مرات فی الیوم [تاریخ کمبریج، ج 3 ص 56] کما أنهم یعتقدون بالمنجی وبمقام رفیع للملائکة [فرای: الإرث القدیم] . . هذا کل ما وجد من أمثلة التشابه .
22. إن من یحیا فی محیط غریب عنه وبین أناس لا یجمعه معهم وجه تشابه فی معتقداته یصاب بضربة ثقافیة [کوئن: أسس علم الاجتماع، ترجمة غلامعباس توسلی، طهران، سمت، 1373 هش، ص 67]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق