سهراب سپهری، شاعر الحجم الأخضر

سهراب سپهري
شاعر الحجم الأخضر

                                                                ذ.أحمد موسى*





ولد سهراب سپهري عام 1928م في مدينة "كاشان" وتخرج عام 1953م من كلية الفنون الجميلة بطهران. نشأت رغبته في الرسم موازية لرغبته في الشعر، حيث كان بالإضافة إلى إصدار مجاميعه الشعرية يقيم معارض لرسومه في مختلف أنحاء طهران، وفي بعض الأحيان كان يقيم أمسيات شعرية في هذه المعارض :
اهل كاشانم
پيشه ام نقاشى است
گاه گاهى قفسى مى سازم با رنگ، مى فروشم به شما
تا به آواز شقايق كه در آن زندانى است
دل تنهايى تان تازه شود.
چه خيالى، چه خيالى،...مى دانم
پرده ام بى جانم است.
خوب مى دانم، حوض نقاشى من بى ماهى است[1]

الترجمة :
من كاشان أنا
مهنتي الرسمُ
أصنع أحياناً قفصاً بالأصباغ، أبيعه لكم
ليُمتع قلبكم
بأغاني الشقائق المحبوسة فيه
أيُّ خيال، أيُّ خيال،...أعلمُ
أنَّ لوحتي لا روح لها.
أعلمُ جيداً أن حوض لوحتي خالٍ من الأسماك.

تركيب الشعر والرسم في روح سهراب سپهري المنعزلة والتواقة إلى نوع من العرفان الحديث يُكسب شعره شفافية الإحساس والدقة والفنية، وأيضاً يكسب لوحاته نوعاً من الإخلاص الشعري.
 يبتدئ ديوان "الحجم الأخضر" بشعر "رسالة الأسماك" فتفتقد أشعاره طبيعتها الواقعية وتنحو نحو السريالية. لكن فضاءه السريالي يفتقد لأي قيمة رمزية، وينطوي على وجود روح كلية في الأشياء والطبيعة ودوران تناسخي فيها. فهو في هذه المجموعة صاحب حس عال تكتسي فيه مدينته الفاضلة شكلاً ذهنياً..
 إذن من أهم مميزات شعر سهراب : الخيال اللامحدود، ونوع من السريالية الأنيقة، والبحث عن الصلات بين الأشياء و المفاهيم من منظار شاعري ممزوج بالخيال.
 رحلات سهراب إلى الغرب والشرق وزيارته روما وأثينا وباريس والقاهرة وتاج محل وآغره وطوكيو تعتبر سلوكاً روحياً، تأمل فيه سهراب في الأرواح والأنفس، أكثر ممّا جاب به العالم.
 قبل أن يقصد سهراب الهند واليابان كان يألف التفكير البوذي، السلامة العرفانية للقدماء، فقد أدت هذه الرحلة إلى تعميق الفتنة ورغبته. وفي الأخير أكسبت فنَّه مساراً عرفانياً ومتطهراً.
 وقد أكسبته رحلته إلى اليابان التي كانت بهدف تعلّم النحت على الخشب أشياء أخرى. إذ نرى أجواء قصائده تشبه أجواء شعر "الهايكو" الياباني.
وإذا ما كان سهراب راضياً بموروثه وممتلكاته، وإذا كان ملتزماً بمحيطه ومدينته، فهذا من تأثير هذه الرحلات.
 ونزعة سهراب إلى الطبيعة بارزة بوضوح في شعره ورسومه، لأنه أقبل على الطبيعة في حياته، وتجنّب من حوله، هؤلاء الذين ربما يمتلك القليل منهم الصفاء والنقاء الإنساني الأمثل :
به سراغ من اگر مى آييد،
نرم و آهسته بياييد، مبادا كه ترك بردارد
چينى نازك تنهايى من[2] .

الترجمة :
إذا جئتموني،
فتعالوا بلطف و هدوء
مخافة أن تنفطر زجاجة وحدتي الرقيقة.

رغبة سهراب بفن و مدارس الشرق الأقصى الفنية والفكرية شيء واضح، وقد واكب هذه الرغبة بوعي من خلال ولعه بالبحث والدراسة في الفلسفة والأديان، كما عُرف عنه في الخمسينيات بأنه رسام متجدد. مع أنه قد ابتدأ كتابة الشعر في نفس هذه الفترة. صدر ديوانه الأول "موت اللون" في عام 1951م، وفي عام 1953م صدرت مجموعته الثانية تحت عنوان "حياة الأحلام". وأصدر عام 1961م مجموعتين هما "أنقاض الشمس" و"شرق الحزن". في هذه المجاميع كان واضحاً صدى تأثيرات "نيما يوشيج"[3] رائد الشعر الفارسي الحديث، لكن في مجموعاته الأخرى "وقع قدم الماء" و"المسافر" وخاصة في "الحجم الأخضر" لا نسمع صوته المألوف، وقد رأى البعض في آخر قصائد سهراب تشابهاً بلغة "فروغ فرخ زاد"[4] الفكرية.
 طُبعت دواوين سهراب عام 1978م في مجموعة واحدة، إضافة إلى ديوان لم يصدر من قبل بعنوان "نحن لاشيء، نحن نظرة" تحت عنوان "الأسفار الثمانية".
 لاقى شعره في أوائل عهده الرفض والانتقاد، ذمَّ الشعراء والنقاد التقليديون شعره وأسلوبه، ووصفوه بأنه إنسان سلبي وغير مسئول ومنصرف عن المجتمع والناس. لكن سهراب استمر بإبداعه بعيداً عن هذا الصخب.
 كان سهراب لا يعبأ بأحكام الآخرين، كان يعلم بأن زماناً سيأتي يحظى فيه شعره بالقبول العام، فعمل في هدوئه، ووهب ما أدركه بالإشراق الفني للوحاته، وإلى كلماته الرقيقة كالماء واللطيفة كزرقة السماء.
 أبرز خصوصية في شعر سهراب هو امتلاؤه بجوهر الشعر. وفي ذلك ميزة قلّما يكتسبها الشعراء بمثل ما اكتسبها هذا الشاعر.
 شعر سهراب مع كونه مجرد من الأوزان العروضية والقافية والرديف[5] ، لكن أغلبه ينطوي على موسيقى داخلية. فهو يخلق – باستخدامه الأصوات والكلمات – موسيقى لطيفة وحلمية، تجعل قصائده متميزة عن قصائد الآخرين، وهذا الجانب يعيّن قواعد أسلوبه المتميز.
 ترابط الكلمات و تجانس الصور تظهر في أعماله بشكل بديع وصاف، وقبل أن تكون هذه الصور قابلة للإدراك في الطبيعة، تُدرك في ذهن القارئ ووجدانه، و تمتزج مع إدراكه الإنساني:
آب را گل نكنيم :
در فرودست انگار، كفترى مى خورد آب.
يا كه در بيشه دور، سيره اى پر مى شويد.
يا در آبادى، كوزه اى پر مى گردد.
آب را گل نكنيم :
شايد اين آب روان مى رود پاى سپيدارى، تا فرو شويد
                                                           اندوه دلى.
دست درويشى شايد، نان خشكيده فرو برده در آب[6].

الترجمة :
لا نُعكِّر الماء :
لعلَّ حمامة في المنحدر تشرب الماء.
أو في الأجمة البعيدة طيراً يغسل جناحيه.
أو في قرية جرّة تمتلئ ماءً.

لا نُعكِّر الماء :
ربما ينساب هذا الماء إلى صفصافة
كي يغسل حزن قلبٍ
ربما غمست يد درويش كسرة خبز يابسة فيه..

كان سهراب سپهري -في زحام شعراء ما قبل الثورة- شاعراً فذّاً، منعزلا عن صخب المثقفين المتغربين، ويعد الآن المثل الأعلى للفنان الحقيقي، فهو شاعر يستند على قدراته ومواهبه الذاتية، عاش وحيداً وابتعد كل البعد عن المكر والنفاق والتحايل. كان يمتلك كل ما يمتلكه الفنان الأصيل من فضائل.
توفي سنة 1980م إثر ابتلائه بسرطان الدم، ودفن في مدينة "كاشان".
 اخترنا منظومته "نشانى" (عنوان) لترجمتها وتحليلها بغية تعرف القارئ المغربي المتذوق على أبعاد شخصيته وطبيعة شعره :
نشانى
"خانه دوست كجاست ؟"
در فلق بود كه پرسيد سوار،
آسمان مكثى كرد.
رهگذر شاخه نورى كه به لب داشت به تاريكى شن ها بخشيد
و به انگشت نشان داد سپيدارى و گفت :
"نرسيده به درخت،
كوچه باغى است كه از خواب خدا سبزتر است
و در آن عشق به اندازه ى پرهاى صداقت آبى است.
مى روى تا ته آن كوچه كه از پشت بلوغ، سر به در مى آرد،
پس به سمت گل تنهايى مى پیچی،
دو قدم مانده به گل،
پاى فوّاره اى جاويد اساطير زمين مى مانى
و ترا ترسى شفّاف فرا مى گيرد.
در صميميّت سيّال فضا، خش خشى مى شنوى
كودكى مى بينى
رفته از كاج بلندى بالا، جوجه بردارد از لانه نور
و از او مى پرسى
خانه دوست كجاست"[7].

الترجمة :
عنوان
"أين بيت الصديق ؟"
سأل الفارس، عند الفجر،
تمهّلت السماء.
وَهَبَ العابرُ ظلمةَ الرمال غصن النور المتدلّي من شفاهه،
و أشار بأصبعه إلى صفصافة و قال :
"قبل أن تصل الشجرة
هناك زقاق مشجّر،
أكثر اخضراراً من حلم الله
فيه الحب أزرق
بلون زغب الصفاء.
تذهب إلى نهاية الزقاق، الذي ينتهي عند خلف البلوغ،
ثم تدلف إلى جانب وردة العزلة،
و قبل أن تصل الوردة بقدمين،
تمكث عند نافورة أساطير الأرض الخالدة
ستأخذك رهبة شفيفة.
ستسمع في صفاء الفضاء السيّال
خرخشة،
سترى طفلاً
تسلّق صنوبرة سامقة
كي يقتطف من عش النور فرخاً،
اسأله :
       "أين بيت الصديق ؟"


 شعر "عنوان" هو عبارة عن أسطورة، أسطورة البحث عن الصديق، أسطورة هوية الصديق. وليس المهم الصديق الذي حُدّد عنوانُه، لكن المهم هو الطريق الذي يُقطع في طلبه هذا الزقاق الأسطوري الذي افتُرش للفارس ليصل إلى "الصديق"، هو الأهم، و ليس الصديق نفسه الذي يقبع خلف الحجب. ومن هذا الحيث فإننا نلمس في قطعة "عنوان" مشابهة لقطعة "العلاقات" للشاعر الفرنسي "بودلير" التي يشبّه فيها الطبيعة بمعبد تُسمع باستمرار من أعمدته أصواتٌ تحوّل العالمَ إلى عالم من العلائم.
السعي للوصول إلى الصديق هو مصير الباحث، ويبدو أن الباحث يعيش في بحث وتنقيب عن النصيب الأبدي. لعل هذا الصديق لا يحظى بالأهمية التي تحظى بها إشاراته وعنوانه المعروف والمجهول في آن واحد. الصداقة التي ترفل في حجب الطبيعة بعيداً عن أنظارنا هي الأهم. هذه الإشارات بمثابة أضواء تنير لنا، نحن الباحثين، الأرض الموعودة وأين يكمن الجبل والهضبة والأرض غير المعبدة، هذه الأخيرة عبارة عن سطح صاف ومصقول تملأ أطرافها أضواء تدعونا للتأمل والنزول والرؤية والتجربة.
 من يكون هذا "الفارس" الذي يبحث عن عنوان الصديق ؟ الصور والاستعارات الواردة في النص تشير إلى أنه لا يمكن أن يكون شيخاً أو عجوزاً، بل إنه فتى لم يصل بعد إلى سن البلوغ أو فتاة في كامل رعونتها وحسنها قررت البحث عن حاجتها الروحية فخلّفت الدنيا وراء ظهرها وانطلقت في رحلة البحث عن الصديق. كما أن هذا الفارس يجب أن يكون ممتطياً فرساً أبيضاً وقوياً متحكماً في لجامه. ألا يدعونا سهراب سپهري إلى شرافة اللون الأبيض ؟ لأن كل شيء أبيض ونوراني، والفرس كذلك.
 كل أسطورة تنطوي على عدة رموز. "بيت الصديق" يرمز إلى الأرض الموعودة. البيت يعد بالراحة والنوم والدعة، وهو وسيلة للخلاص من التيه والضياع، والصديق في مفهوم الصوفية هو المعبود، وفي منطق العشّاق هو المحبوب، وفي اصطلاح الأصحاب هو الصديق والصاحب. "الفجر" يرمز إلى البياض حيث مكمن النور والصفاء والطهر. والسؤال يدل على عدم الإطلاع وعلى البحث والتطلّع وعلى الألم والحاجة. حينما "تتمهل السماء" فإنها تهيئ الأرضية لنشر السر وإشاعة النور. "يد العابر" هي عبارة عن مفتاح للعثور على بيت الصديق. "العابر" هو المرشد أو شيخ الطريقة ينقذ الأسرار من الظلمة ويبثها في أسماع الفتى المريد.
سپهري لا يقف على النار –مثل "دانتي"- بل يسرع نحو الصديق وسط ذاك الزقاق المشجر الفردوسي بين إشارات وعلامات الجنة. "غصن النور" يرمز إلى النور نفسه في تأكيد لمضمون النور في الشعر. يوهب "غصن النور" إلى الظلمة. "الصفصافة" تعني الصفاء والطهر. "زقاق مشجّر" رمز للاخضرار والنقاء، وهو يذكرنا بالزقاق المشجر قديماً حيث يكمن اللطف والصدق والحب والعرفان خلافاً لزقاق اليوم. والاخضرار رمز للهدوء والطيبة.
 في هذا الزقاق حيث الصفاء والصدق لا نستبعد أن يكون العشق "أزرقاً" وأن تستبدل الصداقة بطائر محلق. أليس الطائر رمزاً للصدق والصفاء ؟ فمن حق سهراب وهو الشاعر الرسام أن يرى العشق أزرقاً. "البلوغ" هو بلوغ معنوي وفكري وهو في الوقت نفسه بلوغ جنسي. "وردة العزلة" أو "وردة الوحدة" تشير إلى منتهى الجمال، ولأنه يجب قصدها، فوردة العزلة اسمٌ لزقاق يصلح أن يكون سكناً في عرف الصوفية. الورد نفسه يستلزم وجود "نافورة"، نافورة ماء، ماء الأرض، و"أرض الأساطير" مرتبطة بالماء والورد والوحدة أو العزلة. ورد العزلة قد يعني فيما يعني ورد الإشراق وورد الخلوة المعنوية والروحية. "الرهبة الشفيفة" رهبة عرفانية صوفية ونيّرة تدل مسير البحث وعلى وجود سر ينبغي إفشاؤه.
 في هذه الدنيا المجردة من كل شيء سوى الزقاق المشجر والصفاء السيّال الذي يسكن الذهن. و"السيال" صفة تصويرية تدل على الصفاء الذي غمر كل شيء وانساب في كل مكان. و"الطفل" يرمز إلى روح الصفاء وجوهر البحث والخيال وأصالة الطهر. "صنوبرة سامقة" تشير إلى الروح المتعالية للطفل وعظمة تخيله البسيط. "أخذُ الفرخ" هو عمل ملازم للطفل، لكن لماذا من "عش النور" ؟ لأن الطفل المتطلع يعيش في الظلمة، ولكي يعرف معنى النور، يجب أن يقتطف الفرخ من عش النور. النور هو عرفان وإشراق في نفس الآن.
 رغم أن "الفارس" وصل إلى الطفل المتسلق الشجرة وعثر على عنوان النور –وقد يكون الصديق هو ذاك النور- لكن العابر يطلب منه استفسار الطفل : "أين بيت الصديق ؟" طرح هذا السؤال مجدداً له جانب تمثيلي يكمل رمزية الشعر. يعني أن العابر يقول له عليك السؤال دوماً، حتى ولو رأيت النور، الذي قد يكون هو بيت الصديق، يجب أن تبقى دوماً في بحث عنه، وتقطع كل الأودية وتتخطى كل العلائم والإشارات، لا مجال للارتواء في هذا الطريق، ينبغي طلب العطش حتى تتفجر عليك المياه من فرق ومن تحت. حتى المسحة الصوفية التي نلفيها في نهاية هذا الشعر مشحونة ومفعمة بالصفاء الشعري.










الهوامش :
* أستاذ اللغة الفارسية وآدابها والأدب المقارن بكلية الآداب بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة (المغرب).
(1) "صداى پاى آب" (وقع قدم الماء)، مختارات شعرية لسهراب سپهري، مؤسسة انتشارات نگاه، طهران، 1994م، ص : 158.
(2) "حجم سبز" (الحجم الأخضر)، مختارات شعرية لسهراب سپهري، مؤسسة انتشارات نگاه، طهران، 1994م، ص : 232.
(3) رائد الشعر الفارسي المعاصر، ولد سنة 1895م. شغل مناصب حكومية عديدة. نشر أول منظومة له "افسانه" (الأسطورة) سنة 1923م. ترك نيما يوشيج علاوة على شعره، كثيراً من الآثار النقدية والقصصية والمسرحية. توفي سنة 1960م.
(4) شاعرة إيرانية معاصرة، كرست شعرها لمعاناتها الروحية. ولدت في طهران سنة 1934م. وهي اسمٌ متميز في ديوان الشعر الفارسي المعاصر. توفيت سنة 1967م. صدر لها العديد من المجموعات الشعرية.
(5) الرديف في الشعر الفارسي-وخاصة الكلاسيكي منه- هو عبارة عن كلمة أو عبارة تتكرر بعينها في نهاية كل بيت من أبيات الغزلية.
(6) "حجم سبز" (الحجم الأخضر)، مختارات شعرية لسهراب سپهري، ص : 211.
(7) نفس المرجع، ص : 242.
   














ليست هناك تعليقات: