رمزية الرقص والسماع في الطريقة المولوية
اهتم الأدباء الفرس
بالتصوف اهتماماً بالغاً و خلّفوا آثاراً خالدة في هذا الموضوع و كان من الطبيعي أن
تحظى هذه الآثار بإعجاب القرّاء في مشارق الأرض و مغاربها، فكثُرت ترجماتها و شروحها
إلى اللّغات الشرقية كالعربية و التركية و الأردية قبل أن يتلقّفها الغربيون فيما تلقّفوه
من آثار صوفية عربية و يولوها العناية التي نعرف. و قد صاغ الشعراء الفرس تجاربهم الصوفية
و الروحية شعراً، كما نظموا الملاحم و القصائد الطوال شعراً أيضا، مظهرين قدرة فائقة
على نظم الحكايات الغرامية و القصص الرمزية ذات البعد الصوفي و العرفاني. فقد كتب فريد
الدين العطار[2]
(627
ﻫ)
منطق الطير و أسرار نامه و مصيبت نامه و قد اعتمد في أعماله هذه
و في غيرها من آثاره الشعرية الأخرى النفس الملحمي و القصصي مع كل ما يتطلبه هذا الفن
من سرد و حوار و استطرادات و وصف. و ألّف سنائي[3]
(545
ﻫ)،
بالإضافة إلى ديوانه الذي ضمّ ثلاثين ألف بيت، منظومة طويلة هي «حديقة الحقيقة»
تتصل بالأخلاق و يبلغ عدد أبياتها أحد عشر ألف بيت. إلى جانب ستة مثنويات و كلها مطوّلات.
أمّا نظامي اﻟﮕﻨﺟﻮي[4]
(599
ﻫ)،
و هو من أكثر الشعراء تأثيراً في تطور الأدب الفارسي فله خمس منظومات قصصيّة ذات نفس
ملحمي سمّاها الكنوز و هي: "مخزن الأسرار" و "خسرو و شيرين"
و "ليلى و المجنون" و "اسكندر نامه" و "هفت
ﭘيكر". و لعبد الرحمن الجامي[5]
( 898ﻫ) مثنويات قصصيّة جُمعت
تحت عنوان «نجوم الدب الأكبر السبعة» بالإضافة إلى ثلاثة دواوين من الشعر الغنائي.
و لهذا الاهتمام الفائق بالتصوف الإسلامي
عموماً ما يبرره، فالكتابات الصوفية لا تخضع لزمان أو مكان بعينهما، بل تتمرّد عليهما
و تتجاوزهما لتظل محافظة على توهّجها و نضارتها البكر فلا تبلى و لا يصيبها الضمور.
و لأنها تصدر عن تجربة روحيّة حقيقيّة، فإن أثرها في النفوس لا ينقص بمرور الزمن، بل
يزداد بازدياد حاجة البشر إلى الزخم الروّحي. فلا غرابة إذن أن يقضي المستشرق البريطاني
نيكلسون ثلاثين عاماً من عمره في دراسة و تحليل و ترجمة مثنوي جلال الدين
الروّمي، و أن يوقف المستشرق الفرنسي ماسينيون حياته كلها تقريباً على
دراسة الحلاج و يؤلّف عنه موسوعته الشهيرة «عذاب الحلاج»، و أن يحظى محيي الدين
بن عربي بكل هذا الاهتمام من لدن الباحثين و الدارسين. و يمكن القول، بدون مبالغة،
إنّ النّص الصوفي يحمل حداثته في ذاته و من هنا تخطيّه لحدود الزمان و المكان الذي
أشرنا إليه.
المولوي
و تأسيس الطريقة المولوية :
يعتبر جلال الدين الرومي أكثر هؤلاء الأعلام حظوة لدى الشرقيين و الغربيين على
حدّ سواء، و هو من العرفاء الربّانيين الكبار و أعظم شعراء الفارسية ممّن كتبوا عن
العرفان. فهو، باتفاق الجميع، أكبر شاعر صوفي عرفته البشرية حتى اليوم، اختار
التصوف سبيلاً في حياته العلمية، و فلسفة لفكره و فنه الرفيع. فما من شاعر غنّى المحبة
و الجمال كما غنّاهما هو، و ما من شاعر غاص في أعماق النفس البشريّة كما فعل هو، و
ما من شاعر ألهب قلوب العشاق كما ألهبها هو.
سنحاول في هذه الإطلالة
القصيرة على عالم مولانا جلال الدين أن نقدّم ـ من زاوية مغايرة ـ جوانب من تجربته
الروّحيّة و مساره الصوفي خاصة ما يرتبط بمسألة الرقص و السماع و الموسيقى الروحية
في الطريقة التي أسسها، و ذلك لتقريبها من القارئ الذي لم تتح له فرصة الاطلاع على
هذه الطريقة و آثارها أو على سيرة صاحبها. و هذا أقصى ما يمكن أن نقدّمه في حيّز كهذا،
لأنّنا مهما فعلنا فلن نفي حق من قال فيه عبد الرحمان الجامي، و هو الآخر من كبار شعراء
الفرس: «لم يكن نبيّاً و لكنه أوتي الكتاب»[6]،
و الكتاب المقصود هو المثنوي بالطبع.
ولد جلال الدين الرومي في عصر كان يمور بالاضطرابات والصراعات الداخلية
والخارجية ، وكانت ولادته سنة 604
ﻫ في مدينة بلخ، التي نسب إليها كبار العلماء والفلاسفة والفقهاء، كالفردوسي
وابن سينا، والغزالي، وقد غادرها
أبوه بهاء الدين وَلَد، الملقب بـ "سلطان العلماء"، وهو صوفي وعالم دين سنة 640 ﻫ هرباً من الغزو المغولي القادم من الشرق،
والذي دمّر المدينة بعد عام وأتى عليها. وفي
نيشابور التقى جلال الدين الرومي
الشاعر الصوفي المشهور فريد الدين العطار، الذي أهداه كتابه "أسرار نامه".
لقد ظل الرومي طوال عمره معجباً بالعلماء السابقين عليه و بالخصوص بهذين الشاعرين الصوفيين الرائدين، وكان يردّد القول "لقد اجتاز العطار مدن الحب السبع بينما لا أزال أنا في الزاوية من ممر ضيق". و جاء في المثنوي :
لقد ظل الرومي طوال عمره معجباً بالعلماء السابقين عليه و بالخصوص بهذين الشاعرين الصوفيين الرائدين، وكان يردّد القول "لقد اجتاز العطار مدن الحب السبع بينما لا أزال أنا في الزاوية من ممر ضيق". و جاء في المثنوي :
عطار
روح بوده و
سنائي دو ﭼشم او
ما از ﭘﯽ
سنائى و عطار
آمديم و من آن ملاى روميم كه از نظمم شكر ريزد و ليكن در سخن ﮔفتن غلام شيخ عطارم[7]
أي : كان العطار روحاً، و سنائي عينين له.
أما نحن فقد وصلنا بعد سنائي و العطار.
و أنا شيخ الروم الذي يقطر السكر من شعره.
إلا أني في مجال البيان مريد لشيخي العطار.
عندما التقى جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي[8]، الدرويش الجوال، الذي وصل قونية سنة 665 ﻫ وأقام في أحد
خاناتها منقطعاً إلى نفسه، تعرّض ذات يوم شمس
الدين لموكب الرومي وتلامذته، وجرت بينهما محاورة قصيرة، أغمي فيها على "مولانا" جلال الدين، وعندما استعاد وعيه أخذ شمساً إلى
المدرسة، و في هذا الصدد تروي كل المصادر التي تضمنت سيرة هذا الشاعر الصوفي الكبير
أن مولانا أخذ الدرويش الجوّال إلى داره و بقيا منفردين في خلوة لمدة أربعين يوما،
يتناجيان و يتبادلان الأسرار. لم يدر أحد ما دار بينهما بالضبط لكن المؤرّخين و تلاميذ
جلال الدين الروّمي يتّفقون على أن هذا الأخير قد حقق الكمال الصوفي على يدي شمس التبريزي
بعد أن لقّنه، أثناء خلوتهما، من المعارف و الأسرار ما جعله أهلا لذلك. صار بعدها
"شمس" الأستاذ الروحي للرومي، والذي ظل يحتفظ لأستاذه طوال
حياته بحب و عرفان للجميل لا حدود لهما. أدَّت هذه الحادثة إلى جعل المولوي صوفياً
محترقاً بالمحبة الإلهية، كما عبّر عن حاله بالقول :
مرده بدم زنده شدم ﮔريه بدم خنده شدم
دولت عشق آمد و من دولت ﭘاينده شدم[9]
أي : "كنت نيئاً، ثم أنضجتُ، والآن أنا محترق".
لقد وجد مولانا في شمس التبريزي
الإنسان الكامل الذي بلغ أسمى المقامات الصوفية فيما وجد شمس في مولانا الإنسان الوحيد
القادر على استيعاب و إدراك ما وصل إليه من كشوفات و مراق كان ينوء بأسرارها وحده إلى
أن قادته إلى قونية.
وبعد اختفاء شمس الدين التبريزي أنشأ جلال الدين الرومي الحفل الموسيقي
الروحي، المعروف بالسماع، ثم نظم في ذكرى شيخه
وأستاذه الروحي مجموعة من الأناشيد حملت اسمه "ديوان شمس تبريزي"[10]،
وهي مجموعة أناشيد وقصائد تمثل الحب و الأسى، و إن كانت في جوهرها تنشد الحب
الإلهي المقدس. وقد استمر حال الرومي على
ذلك إلى أن وافته المنية سنة 672 ه.
و يعتبر مثنوي[11]
جلال الدين الرومي، على ضخامته ـ ستة مجلدات ـ من أكثر الكتب رواجاً و شهرة حتى سمّي
بـ«القرآن الفارسي» لكثرة تداوله و شرحه و حفظ الناس لأجزاء منه. و يعود سبب هذا الانتشار
الواسع، في جزء كبير منه، إلى فرقة "المولوية" التي أسّسها جلال الدين الرومي
في تركيا ونظّمها بعد وفاته ابنه الأكبر سلطان وَلَد. ومن سماتها
وخصائصها التي عُرفت بها "الرقص المعروف، أو السماع" الذي أعطى الأعضاء
اسم الدراويش الدوّارين. فقد أدخل جلال الدين السماع كوسيلة لاستدعاء
الحضور الإلهي في حلقات الرقص الصوفي، أو بكلمة أدق، إحساس الإنسان بعودته
الشعورية إلى أصله. فكانت مدينة قونية في تركية المقّر الأول للطريقة، ومنها
انبثقت التكايا (الزوايا) التي هي بمثابة فروع للمركز وصار السلاطين والأمراء هم الذين يبنون التكايا منذ القرن العاشر الهجري، وفي عهد السلطان سليم
الثالث شهدت الطريقة أوج مجدها،وانتشارها.
لم تكن الطريقة في بداية حياة الرومي مركزية تماماً، فهنالك المقر في قونية وله فروع من التكايا في المناطق الأخرى. وكانت بطانة الرومي تتألف من الفنانين والحرفيين والصناع المهرة الذين كانوا يقومون بكل الأعمال.
لم تكن الطريقة في بداية حياة الرومي مركزية تماماً، فهنالك المقر في قونية وله فروع من التكايا في المناطق الأخرى. وكانت بطانة الرومي تتألف من الفنانين والحرفيين والصناع المهرة الذين كانوا يقومون بكل الأعمال.
لم تكن الطريقة المولوية تميز بين الأديان والطوائف، بل ترفض التعصب وتنبذه، وكان أعضاؤها ينطلقون في جماعات إلى القرى، لمساعدة الفقراء، وإقامة حفلات
السماع التي تعزي القلوب
الحزينة.
وبدءً من القرن العاشر الهجري، السادس عشر للميلاد، تغيرت
الطريقة فأصبح التنظيم مركزياً، وتولت الأوقاف تنظيمه، والإشراف عليه وضبط الهبات والأعطيات لـه، مما أفقده طابعه الشعبي، وصار
أرستقراطياً، يبتعد شيئاً فشيئاً عن روح
مؤسسه جلال الدين الرومي.
ويبدو أن خوف السلاطين العثمانيين من مواقف بعض الفرق الصوفية جعلهم يدعمون الطريقة المولوية في مواجهة الحركات والفرق الأخرى، ومن هنا أصبحت هذه الطريقة في القرن الثامن عشر جزءً من مؤسسات الدولة العثمانية.
ويبدو أن خوف السلاطين العثمانيين من مواقف بعض الفرق الصوفية جعلهم يدعمون الطريقة المولوية في مواجهة الحركات والفرق الأخرى، ومن هنا أصبحت هذه الطريقة في القرن الثامن عشر جزءً من مؤسسات الدولة العثمانية.
وفي سنة 1925م قمع أتاتورك كل الطرق في تركية، فأصبحت تكية حلب مركزاً للتكايا الأخر
بعد قونية، ثم استولت الأوقاف التركية على ممتلكاتها، وتحولت أكثر التكايا إلى
متاحف، ورغم ذلك فما زال هنالك مراكز للطريقة المولوية في مصر، وقبرص وليبيا وغيرها.
الموسيقى
و السماع و رمزيتهما في الطريقة المولوية :
انتشر تأثير الطريقة المولوية في
رقعة شاسعة من الأرض، تمتد ما بين أذربيجان إلى فينا ومع انتشار التكايا انتشر
كتاب المثنوي، وأصبح له شعراؤه العظام، ومنهم: إبراهيم بك، وسلطان ديواني، وأرزي وديدي، وشيخ غالب وسواهم. من أهمّ المواضيع التي
عالجها المثنوي قضيّة الإنسان و أصله الإلهي و حنينه الدائم و عودته الشعورية إلى هذا
الأصل التي تبدو واضحة في افتتاحية المثنوي، أو "أنشودة الناي" تماما مثلما
يحنّ الناي إلى غصن الشجرة التي قُطِع منها. و بالسماع تذكير الإنسان بيوم الميثاق
و حالته السماوية السابقة، استمعوا إليه و هو يقول :
بشنو از
نى ﭼون حكايت
مى كند از جدائيها
شكايت مى كند
كز نيستان
تا مرا ببريده اند از
نفيرم مرد و
زن ناليده اند
سينه خواهم
شرحه شرحه از
فراق تا ﺑﮕويم
شرح درد اشتياق
هر كسى كو دور ماند
از اصل خويش باز جويد
روز ﮔار وصل
خويش
من بهر
جمعيتى نالان شدم
جفت بدحالان و خوش
حالان شدم
هر كسى
از ظن خود شد
يار من از درون
من نجست اسرار من[12]
أي : استمع للناي كيف يقصّ حكايته، فهو يشكو آلام الفراق قائلا:
إنني منذ قُطعتُ من منبت الغاب، و الناس رجالا
و نساء يبكون لبكائي.
إني أنشد صدراً مزّقه الفراق حتى أشرح له ألم
الاشتياق.
فكل إنسان أقام بعيداً عن أصله، يظل يبحث عن
زمان وصله.
لقد أصبحتُ أنوح في كل مجتمع و نادٍ و صرتُ
قريناً للبائسين و السعداء.
و قد ظنَّ كل إنسان أنه أصبح رفيقاً و لكنّ أحدا
لم ينقّب عمّا كَمُن في باطني من أسرار.
إن
صوت الناي هذا نارٌ لا هواء، فلا عاش من لم تضطرم في قلبه هذه النار.
و هذه النار
التي حلَّت في الناي هي نار العشق.
و الحديث عن الناي يحيلنا
مباشرة إلى الحديث عن الموسيقى التي شغف بها مولانا، و من هنا حضورها الطاغي في شعره،
فقد كان يحسن العزف على أكثر من آلة موسيقية، كما كان يستعين بها و هو يلقي قصائده
على مريديه أثناء مجالس السماع. فلا غرو إذن أن تكتسي الموسيقى كل تلك الأهميّة في
تجربته الروحية، و لا غرابة أن يشبّهها بصرير باب الجنّة و هو يُفتح على مصراعيه. و قد انتشرت الموسيقى
المولوية، ورقص السماع، وأثرت
التقاليد الفنية للطريقة في فني الرسم والخط. ويعد السماع، أو الرقص الكوني للدراويش الدوارين، من أشهر فنون الطريقة المولوية. وهو طقس له
رمزيته، فالثياب البيض التي
يرتديها الراقصون ترمز إلى الأكفان، والمعاطف السود ترمز إلى القبر، وقلنسوة
اللباد ترمز إلى شاهدة القبر، والبساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة، والدورات الثلاث حول باحة الرقص ترمز إلى المراحل الثلاث في
التقرب إلى الله، وهي طريق
العلم، والطريق إلى الرؤية والطريق المؤدي إلى الوصال. وسقوط المعاطف السود يعني
الخلاص، والتطهر من الدنيا، وتذكر الطبول بالصور يوم القيامة. ودائرة الراقصين تقسم
على نصفي دائرة، يمثل أحدهما قوس النزول أو انغماس الروح في المادة، ويمثل الآخر
قوس الصعود، أي صعود الروح إلى بارئها. ويمثل دوران الشيخ حول مركز الدائرة الشمس وشعاعها، أما حركة الدراويش حول الباحة فتمثل القانون
الكوني، ودوران الكواكب حول
الشمس وحول مركزها.
لم يكن جلال الدين الرومي
هو أوّل من أدخل السماع إلى حلقات الذكر، و لكنه كان الأكثر احتفاء به، أمّا أوّل من
نظم حلقات المولوية في صورتها التي تعرف بها الآن فهو ابنه سلطان ولد، فأصبحت قونية
في عهده مركزاً يضم التكية الأم بعد إنشاء عدد من التكايا في المدن الأخرى.
و تقوم الطريقة المولوية على عناصر ثلاثة أساسية هي الموسيقي
و الرّقص و إنشاد الشعر و تحديداً شعر مؤسّسها مولانا جلال الدين، و قد تعدّى تأثير
هذه الطريقة حدود الحلقات الصوفيّة ليشمل فنونا أخرى كالأدب و الرّسم و الخط، يشهد
على ذلك كثرة الشعراء الفرس و الأتراك ممّن حذوا حذو مولانا في غزلياته و ما تحتويه
المكتبات و المتاحف و منها متحف قونية ـ من كنوز و مخطوطات نادرة من بينها المخطوط
الأوّل للمثنوي ذي المنمنمات الرّائعة و المزيّن بالذهب.
و حلقات السماع، بما فيها من رقص، هي تجربة كونية،
و طريقة للوصول إلى الحقيقة أي الله. و هو ما عبّر عنه جلال الدين الرومي نفسه عندما
قال: «هناك طرق عديدة تؤدّي إلى الله و قد اخترت طريق الرقّص و الموسيقى». و من أقواله
الأخرى المأثورة عن الموسيقى قوله: «في توقيعات الموسيقي يختبئ سرّ لو كشفت عنه لتزعزع
العالم»، و يضيف متحدثّا عن الرّباب: «إنّها ليست سوى وتر يابس و خشب يابس و جلد يابس
لكن منها يخرج صوت المحبوب».
و ترمز الرّقصة الدائريّة التي يؤديها الدراويش
ـ كما سبقت الإشارة ـ إلى دورة المجرات في الفضاء الشاسع، و إلى كل ما يتحرك في الطبيعة
من كائنات. أما حفل السماع فيجري على النحو التالي، يدخل الرّاقصون إلى الحلبة مرتدين
ثنايا بيضاء هي رمز للكفن و قد تجلببوا بمعطف أسود يمثل القبر و على رؤوسهم قلنسوة
طويلة من اللّبد هي صورة لشاهدة القبر. ثم يدخل بعدهم الشيخ الذي يمثّل الوسيط بين
الأرض و السماء، فيحييّ و يجلس على السجادة الحمراء التي يذكّرنا لونها بلون الشمس
الغاربة و هي تنشر آخر أشعتها على مدينة قونية يوم وفاة مولانا. ثمّ يشرع المغنون في
ترديد مدائح و أذكار منتقاة من أشعار جلال الدين الرومي، عندها يتقدّم الدراويش ببطء
و يطوفون ثلاث مرّات حول السجادة الحمراء و يرمز عدد الدورات إلى المراحل الثلاث التي
تقرّب السالك من الله و هي: طريق العلم أو الشريعة، و طريق الرّؤية أي علم الباطن و
طريق المعرفة الحقيقيّة و الاتحاد مع الله.
في نهاية الدورة الثالثة
يتّخذ الشيخ مكانه على السجادة فيتخلى الدراويش عن جلبابهم الأسود ليظهروا بلباسهم
الأبيض و كأنهم تحرّروا من جسدهم المادي من أجل ولادة جديدة، في تلك اللحظة يأذن لهم
الشيخ بالرقّص فيطفقون يدورون ببطء، و قد مدّوا أذرعهم كالأجنحة: اليد اليمنى و كفها
إلى السماء و اليسرى و كفها إلى الأرض. و هذه الحركة هي كناية عن أن الدرويش يتلقّى
الطاقة الحيوية من السماء ليمنحها إلى الأرض في عملية خيميائيّة يملك وحده أسرارها.
و عند بدء الدورة الثالثة
يدخل الشيخ الحلقة لأداء رقصته، فيتسارع إيقاع الآلات، ثم يبدأ الدوران في مركز الدائرة
فيكون بمثابة الشمس و إشعاعها، و هذه اللحظة هي لحظة التحقق القصوى و الاتحاد مع المطلق
و عندما ينتهي الشيخ من الرقص و يعود إلى مكانه تتوقف الآلات عن العزف و يشرع المنشدون
في ترتيل القرآن إيذاناً باختتام مجلس السماع. و الرّقص في حلقات السماع هو، أوّلا
و أخيراً، تحرير للجسد وانفلات من قيود المادة بحيث يصبح الرّاقص، و هو يدور حول نفسه،
هو النقطة و الدائرة معاً ـ أي محور العالم، و من خلاله تلتقي السماء بالأرض و تبدآن
حركتهما فيكون السماع، و الحال هذه، مرآة أوسع هي حركة الأكوان المرئيّة و غير المرئيّة.
أمّا الموسيقى المصاحبة فإنها كناية عن تناغم هذه الأكوان فيما بينها في نظام محكم
هو أسطع دليل على وحدانيّة الخالق.
المراجع المعتمدة :
1/ في حضرة مولانا جلال الدين الرومي، محمد الخالدي.
2/ جلال الدبن الرومي والتصوف، أحمد بن خالد البدلي.
1/ في حضرة مولانا جلال الدين الرومي، محمد الخالدي.
2/ جلال الدبن الرومي والتصوف، أحمد بن خالد البدلي.
3/ تاريخ الأدب في
إيران، إدوارد براون، ترجمة إبراهيم الشواربي، الطبعة 2004.
4/ تذكرة الأولياء، فريد الدين العطار، طهران 1374ش.
5/ ديوان شمس تبريزي،
جلال الدين الرومي، تحقيق عزيز الله كاسب، الطبعة الثالثة، 1382ش.
6/ المثنوي المعنوي،
جلال الدين الرومي، تصحيح نيكلسون، طبعة 1933 في ليدن.
7/ نفحات الأنس من
حضرات القدس، عبد الرحمن الجامي، تصحيح مهدي توحيدي بور، طهران، 1336ش.
[2] من بين أكبر شعراء الصوفية لدى الفرس، ترك
مؤلفات عديدة تبقى منها حوالي ثلاثين مؤلفاً أشهرها منظومته الرمزية "منطق
الطير".
[3] هو أبو المجد مجدود بن آدم، و يعتبر أول الشعراء
المتصوفين الثلاثة العظام ممّن كتبوا المثنويات في إيران.
[4] ثالث الشعراء النابهين الذين عاشوا في العصر
المغولي الأول، و أستاذ الشعر المثنوي الرومانتيكي الذي برز على كل الشعراء في فنه
فاكتسب به شهرة عريضة خلدت ذكره في إيران و في تركية أيضاً.
[10] ديوان شمس التبريزي كتبه تخليداّ لذكرى صديقه و
موجّهه الروحي. و تنضوي قصائد هذا الديوان تحت ما يسمى بالغزل الصوفي و هو فنّ قائم
بذاته برع فيه الشعراء الفرس إلى جانب براعتهم في فنّ آخر و هو الرباعيات.
[11] ديوان شعر ضخم يضم نحواً من خمسة وأربعين ألف بيت، مقسم
على ستة أجزاء، وقد
جاء اسمه (المثنوي) من الوزن العروضي الخاص المستخدم في نظمه،
ويتألف من أبيات
مفردة مقسمة على شطرين مقفّيين، ينطوي كل منهما على عشرة مقاطع،
ومضمون المثنوي
حكايات وأحاديث نبوية وأساطير، وموضوعات من التراث الشعبي، ومقتبسات
قرآنية، وهو ملحمة
صوفية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق