نشرت هذه المقالة في مجلة تحقيق"، تصدرها كلية
الدراسات الشرقية بجامعة لاهور في باكستان، عدد 76، شتنبر 2009 .
و لو أردنا التعرَّض لبعض
الخصوصيات الأساسية الفكرية والثقافية للإيرانيين والتي أبعدتهم عن الأدوار
الكلاسيكية، لنرى ما هي مشخصات ومميزات الثقافة الإيرانية في الفترة المعاصرة
لاستطعنا تحديد ذلك في الخصائص التالية :
1. نبذ القديم أو التقليد :
بنظرة مجملة في الظروف الاجتماعية والثقافية ندرك أن نبذ
القديم هو خصوصية أساسية ميَّزت الثقافة الإيرانية المعاصرة. وتتجلى آثار هذه الخصوصية
في كل مستويات الثقافة وطبقات المجتمع. فعلى سبيل المثال فقد انكسرت الحكومات
التقليدية. ففي السابق لم يكن للشعب أي دور في اختيار الحاكم، أما اليوم فلم يعد
الأمر كذلك. كما طرأ التغيير على شكل القوى السياسية، فلم يعد أصحاب القوى
السياسية من المسئولين أو القائمين على المصالح يُنعتون ب"سايه خدا"[1]
(ظل الله). كما تجلت هذه الخصوصية في العلاقات الاجتماعية أيضاً. فإذا كانت المرأة
في القديم موجوداً متوارياً عن الأنظار، فهي اليوم لم تعد كذلك. يمكن أن نلاحظ هذا
أيضاً في السلوكيات الجماعية والعادات والتقاليد الجديدة، بدءً من لباس كل من
المرأة والرجل ووصولاً إلى السلوك المتحضِّر والمنفتح.
إذن فقد ظهرت في الأدب المعاصر الإيراني ونخص بالذكر
الشعر، موضوعات ومضامين لم تكن مطروقة في الألفية السابقة بأكملها. موضوعات كحقوق
الشعب على الحكومة والحرية بالمعنى السياسي للكلمة والتعليم والتربية الحديثة
والقومية والتعصب للوطن، وموضوعات أخرى من هذا القبيل. لذلك يمكن القول أن نبذ
التقليد الذي بات خصوصية ذاتية في الثقافة المعاصرة تجلى أيضاً في نظم الشعر.
2. السرعة :
الخصوصية الأخرى للثقافة الإيرانية المعاصرة هي السرعة،
فالسرعة هي النتيجة الأولية لمكننة الحياة. ففي القديم كان تغيير خصوصية ثقافية
يستغرق عشرات السنين إن لم نقل المئات، أما اليوم فأصبح التغيير و التحول يقع
بوتيرة سريعة جداً.
ويكفي إلقاء نظرة على التحولات الثقافية خلال الخمسين
سنة الأخيرة في إيران لندرك مظاهر هذه السرعة في ميدان الثقافة والاجتماع. لكن
قصدنا في هذه المقالة هو بيان هذا المسار في نطاق الأدب، فمن علامات هذا التغيير
في الأدب والشعر على وجه الخصوص هو اهتمام القراء والكُتَّاب والشعراء وتوجههم نحو
قوالب أدبية قصيرة لا يستغرق قراؤها وقتاً كثيراً. فاليوم لا طاقة لأي شاعر على
نظم ستة دفاتر مطولة كما فعل جلال الدين الرومي في المثنوي أو قرض ستين ألف بيت على شاكلة الشاهنامة، و حتى إذا وُجد من يفعل ذلك فلن يجد من يقرأ
عمله. لهذا السبب أصبحت اليوم الأشعار والقصص القصيرة أهم القوالب الأدبية
الرائجة. ذلك لأن نفسية أهل الثقافة و ذهنيتهم تأثرت بعامل السرعة الذي ذكرناه.
3. تغير الرؤى والعقائد :
لقد غيَّر التعامل مع الغرب في الفترة المعاصرة أسس رؤى
ومعتقدات الإيرانيين. ففي الفترة الكلاسيكية – كما يبدو من الآثار الأدبية – كان
التوجه والاهتمام بالدنيا مخالفاً للقيم والمبادئ، خاصة في الفلسفة الصوفية،
فأشياء من قبيل المال والجاه والمقام كانت تعتبر من العوائق المانعة لوصول الإنسان
لدرجة الكمال.
فقد كان الإنسان يبني لليوم الآخر ويعمل للدنيا الأخرى وتتضح
هذه العقيدة بجلاء في الحياة الدنيوية (نيم نانى مى رسد تا نيم جانى در تن است) أي
: نصف كسرة خبز تكفي لتبقى الروح في الجسد.
لكن في الفترة المعاصرة تغير تعريف ومنزلة الإنسان في
الوجود جذرياً. فإذا كان الإنسان في القديم يُعرَّف على أنه حيوان ناطق أو حيوان
عاشق، فاليوم أصبح الإنسان حيواناً سياسياً. فالسياسة والقوة السياسية تحتل من
الإنسان اليوم مركز الريادة وكل المعادلات. إن "الإنسان في الدنيا" اليوم
محط الاهتمام وليس "الإنسان في الآخرة" أو "الإنسان في سماء الفناء
الصوفي".
حتى مفاهيم من قبيل "العشق" أصبح لها تعريفها
الخاص في العهد الجديد يتفاوت كلياً مع تعريفها في العهود القديمة، فالمعشوق اليوم
هو ذاك المعشوق الأرضي، وهو في مفهومه المتعالي والسامي عبارة عن تلك المفاهيم
السامية مثل العدالة والإنسانية وليس هو ذاك المعشوق العلوي الذي لا يصله أحد. لقد
نزل العشق من السماوات والأفلاك إلى الأرض واتخذ لنفسه لوناً أرضياً..وكل هذا
يتجلى بوضوح في الشعر المعاصر..
4. تغيُّر الذوق الجمعي :
النتيجة الأولى لتغير الرؤى والعقائد هي بلا شك تغير
الذوق الجمعي للإنسان المعاصر أو الحديث، فنظرة سريعة إلى نوع اللباس وطريقة
التزيّن للرجال والنساء على حد سواء، وكذلك أسلوب العمران والمدن ومقارنة ذلك
بالسابق يُظهِر بجلاء التغير العميق الذي طرأ على الذوق الجمعي للإيرانيين في العهد
الحديث (الفترة المعاصرة). وليتضح هذا التغيير أكثر نقوم بمقارنة خصوصيات المعشوق
في الأدب الكلاسيكي بالمعشوق في الأدب الحديث بجنسيه الشعر والسرد. ففي الأدب الكلاسيكي
كان شَعر المعشوق أسوداً دائماً وطوله يصل حتى الصين، وثغر المحبوب كان بصغر نقطة
وقوامه يشبه شجر السرو وخدوده منتفخة ووردية اللون، وحركاته تشبه حركات الغزال،
وكان هذا المعشوق بعيد المنال وغارقاً في هالة من القدسية والإبهام بعيداً عن
الجنس...لكن المعشوق في الأدب المعاصر له خصوصيات متفاوتة تماماً. إن المعشوق الكلاسيكي
لا وجود له في شعر ولا في المجتمع اليوم. فإذا كان الذوق الجماعي للقدماء في الأدب
يستحسن آهات ومعاناة العاشق المؤلمة وتعالي المعشوق، فإن جيل اليوم يعتبر هذا السلوك
من قبيل الاختلال الروحي والنفسي. لقد تحول فضاء الأدب الكلاسيكي النير إلى عالم
مظلم في الشعر والأدب المعاصرين. ويكفي لمعرفة ذلك مقارنة نسبة الألوان الفاتحة
والقاتمة في الأدبين القديم والحديث. لذلك فإن الذوق الجمعي للأدباء المعاصرين –
والذي يُعبِّر عن ذوق وسليقة المجتمع بأكمله – ينطوي على أشياء جميلة لم تكن كذلك
في الشعر الكلاسيكي والعكس صحيح، وتبرز أهمية هذا الموضوع في دراسة صور الأخيلة في
الشعر المعاصر.
5. كثرة الالتزامات وقلة الوقت ووفرة التسلية :
وهذه كذلك خاصية من خصوصيات الثقافة المعاصرة التي ظهرت
مع تغير حياة الإنسان من حياة زراعية إلى صناعية آلية. فإذا كان القدماء يقضون
ليالي الشتاء الطويلة في قراءة الشاهنامة وسائر الأنواع الأدبية لسبب قلة المشاغل
ووفرة الوقت وانعدام التسلية، فإن حياة المدينة والصناعة والآلة كسَّرت كل هذه
المعادلات وأحدثت نظاماً جديداً غيَّر الإنسان تغييراً كبيراً حتى أصبح مثل الآلة.
وقد أثَّر كل هذا على الآثار الأدبية كلها دون استثناء.
إن التطورات
التي شهدتها إيران بعد عام 1921م تمخضت عن
أدب وشعر جديدين، سُمي فيما بعد
بالشعر "النيمائي"[2] نسبة إلى نيما يوشيج الشاعر
الإيراني المعاصر موضوع الدراسة في هذه المقالة، ولعله من نافلة القول أن نشير إلى أن ميزان شعر نيما يوشيج يتوزع على عدة أمور:
أولاً :
الانطلاق من الشعر الكلاسيكي وقيوده التي فرضت نفسها على الساحة الأدبية في إيران
لمدة إحدى عشر قرناً.
ثانياً:
إن هذه المرحلة ممزوجة بمعترك الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية
بحيث لا يمكن انفصامها، ومن يريد الولوج إلى أدب عصر النهضة في إيران يفرض عليه تتبع هذه الفترة من تاريخ إيران
ونشاطها في مختلف الميادين عن كثب، وأن
يأخذ بعين الاعتبار الانفتاح السياسي على أوربا في العصر القاجاري، ولاسيما عهد
عباس ميرزا (نائب السلطنة) وكذلك الحروب الروسية الإيرانية[3].
أضف إلى ذلك حدوث الثورة الدستورية وما انبثق عنها
من نتائج إيجابية، نلخص أهمها فيما يلي:
o
تداعيات
الحرب الروسية الإيرانية وضرورة الانفتاح على تكنولوجيا متطورة وعصرية.
o
النهوض
لتعلم العلوم والفنون العصرية إثر الجهود التي بذلها عباس ميرزا.
o
الانفتاح
على العالم الجديد وتبادل الوفود الطلابية وغير الطلابية.
o
انتشار صنعة
الطباعة.
o
انتشار
الصحف والمطبوعات.
o
ترجمة
وطبع الكتب المترجمة من اللغات الأجنبية.
إذن على إثر انتشار الحريات و المبادئ الديمقراطية في إيران
وشيوع التعليم في كل أنحاء إيران انبرى الأدباء والشعراء لمشاركة الشعب في أفكارهم
وتركوا الأدب السلطاني (أدب البلاط). ونستطيع القول أن
الشعر والأدب قد تغلغلا في حياة الناس فعلا.
إن الحياة الاجتماعية والسياسية الجديدة انبثقت عنها
كلمات ومصطلحات طغت على الساحة الأدبية،
وأكثرَ الأدباء من استعمالها وعلى سبيل المثال نذكر المفردات التالية : آزادى
(الحرية)، وقانون،
ووطن، و مصطلحات أخرى تنتمي إلى حقول التعليم العصري والعلوم والتكنولوجيا
المتطورة. وقد ألقت هذه التطورات
الاجتماعية التي شهدتها إيران بعد ظهور واستقرار الثورة الدستورية بظلالها على كافة مناحي حياة الإيرانيين، بحيث لم يقتصر
تأثيرها على المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية
بل طال أيضاً الأفكار والعقائد والآداب والتقاليد.
و حسب الدكتور إسماعيل حاكمي فإنه
يقسِّم المجموعات الشعرية لعصر المشروطة منذ انطلاقة
بوادر فكر الحرية حتى السنوات المتزامنة مع 1882م
وما بعدها إلى أربع أو خمس
مجموعات يجعل شاعرنا نيما يوشيج على رأس المجموعة الثالثة التي برزت في أواخر هذا
العصر والتي تميز أعضاؤها وأنصارها
برؤية أعمق للأمور والقضايا من الأبعاد الاجتماعية وكذلك إلمامهم بالجوانب الفنية للشعر لاسيما من زاوية الإطلاع على
التطورات الأدبية في أوربا فإنه يمكننا أن
نتصور أن عدد هذه المجموعة قليل جداً لكن تأثيره اتسم بأهمية بالغة. وهذه المجموعة تضم إضافة إلى نيما أبا القاسم
لاهوتي، وشعراء آخرين، وهؤلاء يجب تسميتهم ب
"ميسرة شعر المشروطة" في القضايا الاجتماعية وفي أصول ومبادئ نقد الشعر. بدأت هذه المسيرة مع إنشاد وظهور أشعار مثل (افسانه: الأسطورة) لنيما يوشيج وما تزال مستمرة حتى
الآن. لقد وسع "نيما" دائرة التجسيدات والأوصاف
وقرب الشعر لطبيعة البيان وواقع الحياة. ورغم أن "الأسطورة" كانت وصفاً لأوضاع الشاعر وبياناً لتفاصيل محل ولادته
لكنها في نفس الوقت تعد انطلاقة في مضمار الشعر
الفارسي الجديد.
ولد سهراب سپهري عام 1928م في مدينة "كاشان" و تخرج عام 1953م من كلية الفنون الجميلة بطهران. نشأت رغبته في الرسم
موازية لرغبته في الشعر، حيث كان بالإضافة إلى إصدار مجاميعه الشعرية يقيم معارض
لرسومه في مختلف أنحاء طهران، وفي بعض الأحيان كان يقيم أمسيات شعرية في هذه
المعارض :
اهل كاشانم
پيشه ام نقاشى است
گاه گاهى قفسى مى سازم با رنگ، مى فروشم به شما
تا به آواز شقايق كه در آن زندانى است
دل تنهايى تان تازه شود.
ﭼﻪ خيالى، ﭼﻪ خيالى،...مى دانم
ﭘرده ام بى جانم است.
خوب مى دانم، حوض نقاشى من بى ماهى است[5]
الترجمة :
من كاشانَ أنا
مهنتي الرسمُ
أصنع أحياناً قفصاً بالأصباغ، أبيعه لكم
ليُمتع قلبكم
بأغاني الشقائق المحبوسة فيه
أيُّ خيال، أيُّ خيال،...أعلمُ
أنَّ لوحتي لا روح لها.
أعلمُ جيداً أن حوض لوحتي خالٍ من الأسماك.
تركيب الشعر والرسم في روح سهراب ﺳﭙهري المنعزلة والتواقة
إلى نوع من العرفان الحديث يُكسب شعره شفافية الإحساس والدقة والفنية، وأيضاً يكسب
لوحاته نوعاً من الإخلاص الشعري.
يبتدئ ديوان
"الحجم الأخضر" بشعر "رسالة الأسماك" فتفتقد أشعاره طبيعتها
الواقعية وتنحو نحو السريالية. لكن فضاءه السريالي يفتقد لأي قيمة رمزية، وينطوي
على وجود روح كلية في الأشياء والطبيعة ودوران تناسخي فيها. فهو في هذه المجموعة
صاحب حس عال تكتسي فيه مدينته الفاضلة شكلاً ذهنياً..
إذن من أهم
مميزات شعر سهراب : الخيال اللاَّمحدود، و نوع من السريالية الأنيقة، والبحث عن
الصلات بين الأشياء والمفاهيم من منظار شاعري ممزوج بالخيال.
رحلات سهراب إلى
الغرب والشرق وزيارته روما وأثينا وباريس والقاهرة وتاج محل وآغره وطوكيو تعتبر
سلوكاً روحياً، تأمل فيه سهراب في الأرواح والأنفس، أكثر ممّا جاب فيه العالم.
قبل أن يقصد
سهراب الهند واليابان كان يألف التفكير البوذي والسلامة العرفانية للقدماء، فقد أدت
هذه الرحلة إلى تعميق الفتنة ورغبته. وفي الأخير أكسبت فنَّه مساراً عرفانياً ومتطهراً.
وقد أكسبته
رحلته إلى اليابان التي كانت بهدف تعلّم النحت على الخشب أشياء أخرى. إذ نرى أجواء
قصائده تشبه أجواء شعر "الهايكو" الياباني.
و إذا ما كان سهراب راضياً بموروثه وممتلكاته، وإذا كان
ملتزماً بمحيطه ومدينته، فهذا من تأثير هذه الرحلات.
ونزعة سهراب إلى
الطبيعة بارزة بوضوح في شعره ورسومه، لأنه أقبل على الطبيعة في حياته، وتجنّب من
حوله، هؤلاء الذين ربما يمتلك القليل منهم الصفاء والنقاء الإنساني الأمثل :
به سراغ من اگر مى آييد،
نرم و آهسته بياييد، مبادا كه ترك بردارد
ﭼينى نازك تنهايى من[6]
.
الترجمة :
إذا جئتموني،
فتعالوا بلطف و هدوء
مخافة أن تنفطر زجاجة وحدتي الرقيقة.
رغبة سهراب بفن
ومدارس الشرق الأقصى الفنية والفكرية شيء واضح، وقد واكب هذه الرغبة بوعي من خلال
ولعه بالبحث والدراسة في الفلسفة والأديان، كما عُرف عنه في الخمسينيات بأنه رسام
متجدد. مع أنه قد ابتدأ كتابة الشعر في نفس هذه الفترة. صدر ديوانه الأول
"موت اللون" في عام 1951م، وفي عام 1953م صدرت مجموعته الثانية تحت عنوان "حياة الأحلام". وأصدر عام 1961م مجموعتين هما "أنقاض الشمس" و"شرق
الحزن". في هذه المجاميع كان واضحاً صدى تأثيرات "نيما يوشيج" رائد
الشعر الفارسي الحديث، لكن في مجموعاته الأخرى "وقع قدم الماء" و
"المسافر" وخاصة في "الحجم الأخضر" لا نسمع صوته المألوف، وقد
رأى البعض في آخر قصائد سهراب تشابهاً بلغة "فروغ فرخ زاد"[7]
الفكرية.
طُبعت دواوين
سهراب عام 1978م في مجموعة واحدة،
إضافة إلى ديوان لم يصدر من قبل بعنوان "نحن لاشيء، نحن نظرة" تحت عنوان
"الأسفار الثمانية".
لقد لاقى شعره في أوائل عهده الرفض والانتقاد،
وذمَّ الشعراء النقاد التقليديون شعره وأسلوبه، ووصفوه بأنه إنسان سلبي وغير مسئول
ومنصرف عن المجتمع والناس. لكن سهراب استمر بإبداعه بعيداً عن هذا الصخب.
كان سهراب لا
يعبأ بأحكام الآخرين، كان يعلم بأن زماناً سيأتي يحظى فيه شعره بالقبول العام،
فعمل في هدوئه، ووهب ما أدركه بالإشراق الفني للوحاته، وإلى كلماته الرقيقة كالماء
واللطيفة كزرقة السماء.
أبرز خصوصية في
شعر سهراب هو امتلاؤه بجوهر الشعر. وفي ذلك ميزة قلّما يكتسبها الشعراء بمثل ما
اكتسبها هذا الشاعر.
شعر سهراب مع كونه
مجرد من الأوزان العروضية والقافية و الرديف[8]، إذ
يعتبر أول شاعر
إيراني قام بكسر أوزان العروض القديمة للشعر الفارسي
الكلاسيكي و القائم أساسا على أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي. ومع ذلك فإن أغلب شعره ينطوي على موسيقى داخلية. فهو يخلق-باستخدامه الأصوات والكلمات-
موسيقى لطيفة، تجعل قصائده متميزة عن قصائد الآخرين، وهذا الجانب يعيّن قواعد
أسلوبه المتميز.
إن ترابط
الكلمات وتجانس الصور تظهر في أعماله بشكل بديع وصاف، وقبل أن تكون هذه الصور
قابلة للإدراك في الطبيعة، تُدرك في ذهن القارئ ووجدانه، وتمتزج مع إدراكه الإنساني
:
آب را گل نكنيم :
در فرودست انكار، كفترى مى خورد آب.
يا كه در بيشه دور، سيره اى ﭘر مى شويد.
يا در آبادى، كوزه اى ﭘر مى گردد.
آب را گل نكنيم :
شايد اين آب روان مى رود ﭘﺎى ﺳﭙﻴدارى، تا فرو شويد
اندوه دلى.
دست درويشى شايد، نان خشكيده فرو برده در آب[9].
الترجمة :
لا نُعكِّر الماء :
لعلَّ حمامةً في المنحدر تشرب الماء.
أو في الأجمة البعيدة طيراً يغسل جناحيْه.
أو في قريةٍ جرّةٌ تمتلئ ماءً.
لا نُعكِّر الماء :
ربما ينساب هذا الماء إلى صفصافة
كي يغسل حزنَ قلبٍ
ربما غَمَسَتْ يدُ درويشٍ كِسْرةَ خُبزٍ يابسة فيه..
كان سهراب ﺳﭙهري-في زحام شعراء ما قبل الثورة-شاعراً
فذّاً، منعزلا عن صخب المثقفين المتغربين، ويعد الآن المثل الأعلى للفنان الحقيقي،
فهو شاعر يستند على قدراته ومواهبه الذاتية، عاش وحيداً وابتعد كل البعد عن المكر
والنفاق والتحايل. كان يمتلك كلما يمتلكه الفنان الأصيل من فضائل.
توفي سنة 1980م إثر ابتلائه بسرطان الدم، ودفن في مدينة "كاشان".
اخترنا منظومته
"نشانى" (عنوان) لترجمتها وتحليلها بغية تعرف القارئ العربي المتذوق على
أبعاد شخصيته وطبيعة شعره المتجدد :
نشانى
"خانه دوست كجاست ؟"
در فلق بود كه ﭘرسيد سوار،
آسمان مكثى كرد.
رهگذر شاخه نورى كه به لب داشت به تاريكى شن ها بخشيد
و به انگشت نشان داد ﺳﭙﻴدارى و گفت :
"نرسيده به درخت،
كوﭼﻪ باغى است كه از خواب خدا سبزتر است
و در آن عشق به اندازه ى ﭘرهاى صداقت آبى است.
مى روى تا ته آن كوﭼﻪ كه از پشت بلوغ، سر به در مى آرد،
پس به سمت گل تنهايى مى ﭘﻴﭽﻰ،
دو قدم مانده به گل،
پاى فوّاره اى جاويد اساطير زمين مى مانى
و ترا ترسى شفّاف فرا مى گيرد.
در صميميّت سيّال فضا، خش خشى مى شنوى
كودكى مى بينى
رفته از كاج بلندى بالا، جوجه بردارد از لانه نور
و از او مى پرسى
خانه دوست كجاست"[10].
الترجمة :
عنوان
"أين بيت الصديق ؟"
سأل الفارس، عند الفجر،
تمهّلتِ السماء.
وَهَبَ العابرُ ظُلمةَ الرمال غُصْنَ النَّوْرِ المُتَدَلّي
من شفاهه،
و أشار بأصبعه إلى صَفْصافَةٍ و قال :
"قبل أن تصل الشجرةَ
هناك زقاق مُشَجَّّر،
أكثرُ اخضراراً من حلم الله
فيه الحُبُّ أزرق
بلون زَغَبِ الصَّفَاء.
تذهب إلى نهاية الزِّقاق، الذي ينتهي عند خلف البُلوغ،
ثم تُدْلِف إلى جانب وردة العُزلة،
و قبل أن تصل الوردة بقَدَمَيْن،
تَمْكُثُ عند نافورة أساطيرِ الأرض الخالدة
ستأخذكَ رَهْبةٌ شَفَّافَة.
ستسْمَعُ في صفاء الفضاء السَّيال
خرخشة،
سترى طفلاً
تسلّق صَنَوْبَرَة سامِقَة
كي يقتطف من عُشِّ النَّوْر فَرْخاً،
اسأله :
"أين
بيت الصديق ؟"
شعر "عنوان" هو عبارة عن أسطورة، أسطورة
البحث عن الصديق، أسطورة هوية الصديق. وليس المهم الصديق الذي حُدّد عنوانُه، لكن
المهم هو الطريق الذي يُقطع في طلبه. هذا الزقاق الأسطوري الذي افتُرش للفارس ليصل
إلى "الصديق" هو الأهم، وليس الصديق نفسه الذي يقبع خلف الحجب. ومن هذا
الحيث فإننا نلمس في قطعة "عنوان" مشابهة لقطعة "العلاقات"
للشاعر الفرنسي "بودلير" التي يشبّه فيها الطبيعة بمعبد تُسمع باستمرار
من أعمدته أصواتٌ تحوّل العالمَ إلى عالم من العلائم.
السعي للوصول إلى الصديق هو مصير الباحث، ويبدو أن
الباحث يعيش في بحث وتنقيب عن النصيب الأبدي. لعل هذا الصديق لا يحظى بالأهمية
التي تحظى بها إشاراته وعنوانه المعروف والمجهول في آن واحد. الصداقة التي ترفل في
حجب الطبيعة بعيداً عن أنظارنا هي الأهم. هذه الإشارات بمثابة أضواء تنير لنا نحن
الباحثين الأرض الموعودة وأين يكمن الجبل والهضبة والأرض غير المعبدة، هذه الأخيرة
عبارة عن سطح صاف ومصقول تملأ أطرافها أضواء تدعونا للتأمل والنزول والرؤية والتجربة.
من يكون هذا
"الفارس" الذي يبحث عن عنوان الصديق ؟ الصور والاستعارات الواردة في
النص تشير إلى أنه لا يمكن أن يكون شيخاً أو عجوزاً، بل إنه فتى لم يصل بعد إلى سن
البلوغ أو فتاة في كامل رعونتها وحسنها قررت البحث عن حاجتها الروحية فخلّفت
الدنيا وراء ظهرها وانطلقت في رحلة البحث عن الصديق. كما أن هذا الفارس يجب أن
يكون ممتطياً فرساً أبيضاً وقوياً متحكماً في لجامه. ألا يدعونا سهراب ﺳﭙهري إلى
شرافة اللون الأبيض ؟ لأن كل شيء أبيض ونوراني، والفرس كذلك.
كل أسطورة تنطوي
على عدة رموز. "بيت الصديق" يرمز إلى الأرض الموعودة. البيت يعد بالراحة
والنوم والدعة، وهو وسيلة للخلاص من التيه والضياع، والصديق في مفهوم الصوفية هو
المعبود، وفي منطق العشّاق هو المحبوب، وفي اصطلاح الأصحاب هو الصديق والصاحب.
"الفجر" يرمز إلى البياض حيث مكمن النور والصفاء والطهر. والسؤال يدل
على عدم الإطلاع وعلى البحث والتطلّع وعلى الألم والحاجة. حينما "تتمهل
السماء" فإنها تهيئ الأرضية لنشر السر وإشاعة النور. "يد العابر"
هي عبارة عن مفتاح للعثور على بيت الصديق. "العابر" هو المرشد أو شيخ الطريقة
ينقذ الأسرار من الظلمة ويبثها في أسماع الفتى المريد.
ﺳﭙهري لا يقف على النار-مثل "دانتي"- بل يسرع
نحو الصديق وسط ذاك الزقاق المشجر الفردوسي بين إشارات وعلامات الجنة. "غصن
النور" يرمز إلى النور نفسه في تأكيد لمضمون النور في الشعر. يوهب "غصن
النور" إلى الظلمة. "الصفصافة" تعني الصفاء والطهر. "زقاق
مشجّر" رمز للاخضرار والنقاء، وهو يذكرنا بالزقاق المشجر قديماً حيث يكمن
اللطف والصدق والحب والعرفان خلافاً لزقاق اليوم. والاخضرار رمز للهدوء والطيبة.
في هذا الزقاق
حيث الصفاء والصدق لا نستبعد أن يكون العشق "أزرقاً" وأن تستبدل الصداقة
بطائر محلق. أليس الطائر رمزاً للصدق والصفاء ؟ فمن حق سهراب وهو الشاعر الرسام أن
يرى العشق أزرقاً. "البلوغ" هو بلوغ معنوي وفكري وهو في نفس الوقت بلوغ
جنسي. "وردة العزلة" أو "وردة الوحدة" تشير إلى منتهى الجمال،
ولأنه يجب قصدها، فوردة العزلة اسمٌ لزقاق يصلح أن يكون سكناً في عرف الصوفية.
الورد نفسه يستلزم وجود "نافورة"، نافورة ماء، ماء الأرض، و"أرض
الأساطير" مرتبطة بالماء والورد والوحدة أو العزلة. ورد العزلة قد يعني فيما
يعني ورد الإشراق وورد الخلوة المعنوية والروحية. "الرهبة الشفافة" رهبة
عرفانية صوفية ونيّرة تدل مسير البحث وعلى وجود سر ينبغي إفشاؤه.
في هذه الدنيا
المجردة من كل شيء سوى الزقاق المشجر والصفاء السيّال الذي يسكن الذهن.
و"السيّال" صفة تصويرية تدل على الصفاء الذي غمر كل شيء وانساب في كل
مكان. و"الطفل" يرمز إلى روح الصفاء وجوهر البحث والخيال وأصالة الطهر.
"صنوبرة سامقة" تشير إلى الروح المتعالية للطفل وعظمة تخيله البسيط.
"أخذُ الفرخ" هو عمل ملازمٌ للطفل، لكن لماذا من "عش النور" ؟
لأن الطفل المتطلع يعيش في الظلمة، ولكي يعرف معنى النور، يجب أن يقتطف الفرخ من عش
النور. النور هو عرفان وإشراق في نفس الآن.
رغم أن
"الفارس" وصل إلى الطفل المتسلق الشجرة وعثر على عنوان النور –وقد يكون
الصديق هو ذاك النور- لكن العابر يطلب منه استفسار الطفل : "أين بيت الصديق
؟" طرح هذا السؤال مجدداً له جانب تمثيلي يكمل رمزية الشعر. يعني أن العابر
يقول له عليك السؤال دوماً، حتى ولو رأيت النور، الذي قد يكون هو بيت الصديق، يجب
أن تبقى دوماً في بحث عنه، وتقطع كل الأودية وتتخطى كل العلائم والإشارات، لا مجال
للارتواء في هذا الطريق، ينبغي طلب العطش حتى تتفجر عليك المياه من فرق ومن تحت.
حتى المسحة الصوفية التي نلفيها في نهاية هذا الشعر مشحونة ومفعمة بالصفاء الشعري.
[4] الدكتور
جعفر ياحقي، جويبار لحظة ها ، ص 9-11. وللمزيد من المعلومات راجع : اديبات
معاصر إيران، للدكتور محمد رضا روزبه.
[7] شاعرة إيرانية معاصرة،
كرست شعرها لمعاناتها الروحية. ولدت في طهران سنة 1934م. و هي اسمٌ متميز في ديوان
الشعر الفارسي المعاصر. توفيت سنة 1967م. صدر لها العديد من المجموعات الشعرية.
[8] الرديف في الشعر
الفارسي-وخاصة الكلاسيكي منه- هو عبارة عن كلمة أو عبارة تتكرر بعينها في نهاية كل
بيت من أبيات الغزلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق