نقلاً عن كتاب (روزگاران) لعبد الحسين زرينكوب بتصرف.
استمرت آخر التجليات عن شكل الحياة والعادات الاجتماعية لإيران في الماضي، والتي تُصوِّر بعض الكتب، كقصة "حاجي بابا اصفهاني" صوراً متشائمة وسلبية عنها، إلى أواخر العهد القاجاري.
إضافة إلى الروايات التي جاءت في كتب مثل "قصص العلماء" للتنكابني، والإشارات التي وردت في "رساله مجديه" و"يك
كلمه"، والانتقادات التي
أثارها أمثال ملكم خان ارمنى وميرزا آقاخان كرمانى وآخوند زاده
و عبد الرحيم طالبوف، وعلى الخصوص ما جاء في كتاب "سياحتنامه ابراهيم بيك" حول تقارير المسافرين الأوروبيين إلى إيران من أمثال سرجان
ملكم وﭘولاك وفريزر وكاﺳﭘارد روويل اﻟﺬين جاؤوا إلى
إيران في فترة القاجاريين، فإننا نجد أيضاً الاختلاف الكبير بين ذلك وبين ما كان
بعد تلك الفترة بفعل التقليد للحياة وللعادات الأوروبية أو بفعل التأثر بالعوامل
الناشئة عن رؤية العصر الجديد في إيران.
كما
أن تعجب وكراهية وحتى نفور بعض الإيرانيين حينها من العادات والتقاليد الغربية
بفعل مشاهدتهم للحياة الأوروبية يُظهر بجلاء الفرق بين عادات وأوضاع إيران في عصر
القاجاريين وما قبله، وبين ما عرفته إيران من النفوذ الغربي فيما بعد، كما أن
التأمل في ذكريات وخواطر كبار رجالات العصر الأخير، والذي يعتبر كتاب "زندﮔﺎنى من" لعبد الله مستوفى نموذجاً له، يصور الفارق الكبير بين ﻫﺬين
الوجهين للحياة الاجتماعية واليومية في إيران طيلة القرن الأخير، من هنا يمكن أن
نستحضر معنى التغيير الذي شهدته إيران في القرن الأخير وصورته قبل ﻫﺬه الفترة، والتي كانت مرحلة التفتح أواخر العهد القاجاري والثورة الدستورية مؤثران في
تغييره التدريجي ثم المطلق.
عرف عدد سكان إيران في ﻫﺬه المرحلة انخفاضاً
مشهوداً مقارنة بالعهد الصفوي. وضمَّ عناصر وأجناس متنوعة من ترك وكرد وبلوﭺ وعرب وأرامنة ومسيحيين آشوريين وزردشتيين ويهود وقوقاز، كما ضمَّ المجتمع
الإيراني طبقات اجتماعية متفاوتة بين أمراء وأعيان وعلماء وأسياد العشائر وأصحاب المناصب الإدارية العليا وغيرهم ممن لهم امتيازات وحظوة، وطبقات أخرى
تفتقر إلى أبسط الامتيازات وتتحمل كل أنواع الجور والضرائب، أمثال طبقة الملاكين
الصغار والحرفيين والجنود والبدو والعشائر.
ﻣﻨﺬ عهد فتحعلى شاه
الذي كان يُعيِّن أمراءه وأولاده على حكومة الولايات، أصبحت كل ولاية أو
مدينة أو قصبة مركزاً لسلطة واحدٍ من أبناء أو أحفاد ﻫﺬا الملك.
كان هؤلاء الحكام المنسوبين إلى بيت السلطنة
يزعزعون بأنفسهم الأمن بتجاوزاتهم وتعديهم ومصادراتهم وسلبهم وجرائمهم.
كانت تتجسد في حكومة الشاه -وخاصة في العصر
الناصري- كل عيوب وسلبيات الاستبداد الشرقي، وكل تغيير للحكومة في نظامه المستبد
سواء في طهران أو في ولايات أخرى لم يكن سوى تغيير للعنف والاستبداد والتجاوز بمثيله، لا غير.
فإضافة
إلى أذربيجان التي كانت تعتبر مركز استبداد ولي العهد وقصر إيران الثاني،
فإن مسعود ميرزا ظِلّ السلطان، الابن الأكبر للشاه، كان الحاكم المطلق في أصفهان
وكان ظلمه واستبداده يوحي بوحشية التتار والمغول. أما في طهران فإن الابن
الآخر للملك، وهو كامران ميرزا نايب السلطنة كان بصفته وزيراً للحرب لا
يتورع عن أي نوع من أنواع الظلم. وفي فارس كان فرهاد ميرزا معتمد الدولة
مثالاً للقسوة والتعذيب. وفي كرمان وخراسان وسائر البلاد
كان الشعب تقريباً في معرض تجاوزات ودسائس الأمراء والحكام ومن تحت أيديهم. ولم يكن بإمكان أحدٍ تقديم تظلم أو النجاة من شرهم. وإنَّ ما جاء في كتاب "تاريخ بى دروغ" لظهير الدولة
صهر الملك ناصر الدين شاه يُظهر نماذج لمظالم وفجائع الملك وأمرائه في
ذلك الوقت. وفي نهاية ﻫﺬا العهد يُلاحظ استمرار الفساد والرشوة وتجاوزات رجال الدولة وممارسة التمييز وعدم تطبيق القانون في شؤون
المملكة، ويلاحظ كذلك التدخل المتزايد للروس والإنجليز في الشؤون السياسية للبلاد وتنافسهم في إحراز المزيد من الامتيازات...كل
ﻫﺬا كان يضر بأمن الشعب ضرراً بالغاً. كذلك فإن أسفار الملك الترفيهية إلى أوروبا
مع كوكبة من الرجال الجهال لم يكن يجر أي نفع للبلد والمواطنين، كل ﻫﺬا كان سبباً
في الحقد الذي مافتئ يكبر في صدور الطبقات الفاقدة للامتيازات والمثقلة كواهلها
بالضرائب تجاه استبداد القاجاريين وكان يُشكِّل همّاً وشغلاً شاغلاً للعلماء والمفكرين.
في خضم ﻫﺬه الأوضاع لم يكن أحدٌ من رجال الدولة يفكر
سوى في استمرار الوضع القائم، اللّهم إلاّ إذا استثنينا منهم قائم مقام فراهانى وميرزا تقى خان أمير كبير وميرزا حسين خان ﺳﭙهسالار وميرزا على خان
أمين الدولة اﻟﺬين أظهروا أفكاراً تقدمية وإصلاحية والتي لم تُتابع أبداً.
يُشكِّلُ ميرزا آقا خان نورى نموذجاً لصورة تفكير رجال الدولة القاجارية الذي صرّح
بعدم السماح للشعب بالتعرف على المبادئ والقوانين والحقوق. وهناك نماذج أخرى
لرجال ﻫﺬه الدولة اﻟﺬين استمروا في ممارسة الاستبداد وكل أنواع الدسائس والفجائع
نذكر من بينهم : حاجى ميرزا آقاسى ايروانى الصدر الأعظم لمحمد شاه،
وعبد المجيد ميرزا عين الدولة الصدر الأعظم لمظفر الدين شاه، وميرزا على اصغر خان ﮔرجى الشهير بأمين السلطان الصدر الأعظم لناصر
الدين شاه. أما عامة الشعب فكانوا يرزحون تحت نير الظلم والرعب ويرفلون في ثياب الفقر والجهل.
أما الجيش النظامي الإيراني فإلى أواخر العهد
الناصري كان في وضع لا يجلب النفع لا للملك ولا للمملكة.
كان مصطلح العلم ينحصر على العلوم الشرعية، ولقب
العلماء ينسحب على المجتهدين والمدرِّسين والطلاب المنتسبين إلى الحوزة العلمية.
في أواخر ﻫﺬا العهد نُقلت الحوزات العلمية الكبيرة إلى كربلاء والنجف،
لكن قبل ذلك الوقت كانت دائرة في كل نواحي إيران كطهران وتبريز ومشهد
وقم وكاشان وأصفهان وبروجرد. وكانت علوم الفقه والأصول والتفسير والكلام والحديث وعلوم البلاغة والأدب تشكِّل الأساس في
الدروس العلمية حينها. لكن العلوم غير الشرعية لم يكن لها موقع يُذكر، ومع ذلك
فإن العلوم الطبيعية والرياضية كانت تُدرس ضمن دروس الحكمة.
أما البلاغة والنحو وعلوم العربية فكانت تحظى
بمنزلة متميزة لدى أصحاب التاريخ والتفسير والأدب، وكان التاريخ يشمل المغازي وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحوال الرجال ومشاهير الإسلام. ﻫﺬا بالرغم من
أن ترجمة بعض التواريخ الأوروبية في أواخر ﻫﺬا العصر كانت سبباً في الإطلاع على
بعض أحداث التاريخ المعاصر.
كان العلماء والمجتهدون والأسياد يحظون
باحترام خاص في المجتمع، و كان لهم نفوذ واضح في أكثر القضايا الاجتماعية. أما
الأسياد فكانوا يُعاملون باحترام وقداسة استثنائية حتى وإن لم يكن لهم نصيب من
العلم، يكفي أنهم ينتسبون إلى بيت النبوة. كما أن بعض علماء ﻫﺬا العصر – خاصة
الأسياد منهم - تمكنوا من تكديس ثروات
طائلة بسبب جمع أموال النذور والخُمس والأوقاف والمساجد والمدارس والزوايا
التي كانوا يتولون الإشراف عليها، أو بسبب ولاية الأيتام وإدارة أموالهم وممتلكاتهم. وكانت سلطتهم توازي أحياناً سلطة الحكام. ومن باب التمثيل نذكر أسماء
العلماء التاليين اﻟﺬين لم تحل ثرواتهم وأموالهم الطائلة دون استمرار نفوذهم بين
عامة الشعب : حجة الإسلام شفتى وحاجى ملا على كنى وحاجى آقا محسن
عراقى...
اكتشَفت
إيران أوروبا لأول مرة في عهد الصفويين، لكن تبعات ﻫﺬا الاكتشاف لم تظهر إلا في
عهد القاجاريين. فالروابط بين الأوروبيين والإيرانيين أصبحت في عهدهم ملزمة
يستحيل التراجع عنها. وإن توسيع ﻫﺬه الصلات جعل إيران في معرض التأثر بالحضارة والثقافة الأوروبية. كما أن الإحساس بضرورة اكتساب العلوم الأوروبية وتعلم لغتهم –
الذي كان جواباً طبيعياً لحاجة طبيعية وآنية – ظهر في ﻫﺬا العصر.
كما
أن الحروب الإيرانية الروسية كانت تملي على الحكومة ضرورة إصلاح النظام وإعداد
أسلحة جديدة، وﻫﺬا بدوره كان يفرض التعرف على العلوم والصناعات الجديدة في
الغرب. وقد بادر بعض رجالات ﻫﺬا العصر بإصلاحات في ﻫﺬا الاتجاه غيَّرت إلى حد
كبير صورة الحكومة والنظام الإداري في إيران، نذكر من بينهم : ميرزا بزرﮒ وميرزا أبو قاسم قائم مقام وميرزا تقى خان أمير كبير وميرزا
حسينخان ﺳﭙهسالار وغيرهم. وقد صدر بيانٌ من الحكومة في العهد الناصري (1276ق)
يلزم اكتساب "العلوم والصناعات المتداولة في أوروبا" باعتبارها
"أسباب رقي وازدهار الدولة".
لكن رغم أن الاطلاع على علوم الفيزياء والرياضيات والطب والهندسة الأوروبية تم ﻣﻨﺬ تأسيس مدرسة "دار
الفنون" في طهران، ورغم التغييرات التي طرأت في نظم وطرق
استعمال الأسلحة الجديدة، إلا أن عدم إيمان مسؤولي الدولة بضرورة تغييرٍ مواكبٍ
لتلك التغييرات في الأنظمة والشؤون المدنية كان حائلاً دون حصول التطور الكامل
ﻟﻫﺬه العلوم والصناعات في إيران. وحتى القيام بنشر الصحف وإيجاد تغيير في بعض
الترتيبات الإدارية لم يكن ليثمر أو ليرفع الظلم والاستبداد عن الشعب إلاَّ
بإجراء الإصلاحات اللازمة في القضايا والشؤون المدنية. ﻟﺬلك فحتى الثورة الدستورية
(المشروطة) لم تؤد إلى رفع حواجز الترقي والازدهار بشكل قطعي وفوري، بل سقطت هي
نفسها في دوامة خلافات شديدة بين المطالبين باستمرار الوضع القائم وهواة التغيير
والتجديد ممَّا حدا بها إلى فقد قوتها وقدرتها.
استطاعت الصحافة الفارسية التي كانت تنشر في
الغالب مقالات مثيرة حول المؤسسات الاجتماعية في أوروبا والعمران والازدهار والعدالة الاجتماعية وحسن تعامل الأوروبيين، كل ذلك بلحن مبالغ فيه، وكذلك حول
دخول السلع والصناعات والاختراعات الأوروبية الجديدة والألبسة والأسلحة ولوازم البيوت والإدارات وغير ذلك، استطاعت في الأخير أن تثير الانتباه إلى
الفوائد الجمة للحضارة الأوروبية.
لكن ما يُنقل عن بعض مثقفي العهد الناصري وبعض
رواد الحركة الدستورية في شأن الأخذ بالتمدن والحضارة الأوروبية دون أي شرط أو
قيد، كان يُفسر من قِبل المطالبين باستمرار الوضع القائم بأنه نفي للشريعة
الإسلامية، وبالتالي كان يتعرض للنقد. وﻫﺬا كان مدعاة إلى الوقوف في وجه
المشروطة وسبباً في عدم استحكام بنائها.
اتخذت الحكومة الإيرانية بعد مرور سنوات قليلة
من العهد القاجاري التقليد الأعمى لظاهر الحضارة الأوروبية شعاراً لها. وبعد
الحرب العالمية الثانية التي كشفت المقاصد الاستعمارية الأوروبية وأطماع الدول
الغربية في إيران والدول الإسلامية وغير الإسلامية من الدول الشرقية ظهرت ردود
أفعال كثيرة سواء من الأشخاص المتدنيين أو من غيرهم ممَّن كانوا يطالبون بالتحرر
من التدخل والانصياع للحاجة إلى العلوم والصناعات الغربية، وانعكس كل ذلك في
أدب عصره بشكل تدريجي.
• • •
انصبت الفعاليات الأدبية في إيران طيلة نصف
العهد القاجاري على إيجاد وتهيئ الأرضية لنهضة ثورية مشهورة كان هدفها الأساسي
نشر العدل وتأسيس "دار العدالة". وبالرغم من أن مظفر
الدين شاه كان من بين آخر الملوك القاجاريين اﻟﺬين وقَّعوا على منشور ووثيقة
إيجاد "دار العدالة"، والثورة الدستورية (المشروطة)، وخَلَّدَ اسمه في
التاريخ كـ"عدل مظفر"، فإن استقرار أصلها عجَّل بسقوط الدولة القاجارية،
كما أن "دار العدالة" التي أُسِّست بمجهود قادة تلك النهضة، وأُطلق عليها
اسم مجلس الشورى الوطني، أعاد بعد سقوط السلسلة القاجارية استبداد
الحاكم القاجاري بصورة أخرى وبلباس المشروطة. لذلك لم تتبق من مكتسبات الثورة
الدستورية سوى الاسم ومؤسساتها الشكلية، بالرغم من أن آداب تلك الفترة كان لها
دورٌ فعّال في التحول الأدبي لإيران.
كانت الثورة الدستورية في الحقيقة انفجاراً للعُقَد
التي تراكمت في أذهان أكثر طبقات المجتمع الإيراني طيلة سنوات الاستبداد والتجاوز
القاجاري وفقدان العدالة والحرية وانعدام مراجع التظلم المحايدة.
انضمت طبقة من علماء العصر في المطالبة بدار
العدالة هذه إلى المطالبين بذلك ممّن كانوا في معظمهم من التجار والحرفيين والطبقات المسحوقة الذين كان تأسيس "دار العدالة" بالنسبة لهم أمراً لازماً. لكن
الطبقات المزارعة وبقية الرعايا لم تنضم إلى هذه المطالبات ولم يكن لها دورٌ
يُذكر. أما الملاَّكين الكبار وأصحاب الرساميل فكان الوضع القائم مناسباً لهم، وأٌجبر صغار الملاَّكين على متابعتهم، لأن إقامة "دار العدالة" التي ستكون مرجعاً
لتظلمات الرعايا سيضر بمصالحهم. وبذلك فإنه من الطبيعي ألا يشارك في مثل هذه النهضة
طبقات المزارعين والرعايا الذين يتبعون ويطيعون كبار الملاَّكين ويفتقدون إلى
الرشد الفكري والثقافة العادية.
أدى التضامن التدريجي للأشخاص الذين يهمهم إيجاد "دار العدالة" مع العلماء والمفكرين والمثقفين والذين سببوا ضرراً كبيراً للحكومة
المستبدة في قضية "التنباكو"، أدى كل ذلك التضامن التدريجي إلى جلب واستقطاب بعض رجالات الدولة والإدارات، وإلى تحرك الأشخاص الذين كانوا يعانون من
تخلف إيران في السياسة الدولية، والذين كانوا يعتبرون ضعف الحكومة مقابل أطماع
الدول الأوروبية ناشئاً من فسادها ومن فقدان القانون والعدالة، والذين كانوا
يرون أن إيجاد التغيير الاجتماعي دفعة واحدة وبشكل فوري أمر لازم لارتقاء وازدهار إيران، أدى ذلك إلى تحرك هؤلاء في اتجاه تأييد وقيادة المطالب الاجتماعية
ومشاورة العلماء والوعاظ وأرباب الصحف، وقد أبانوا في هذا الأمر حماسة كبيرة.
وحين سنحت الفرصة لإبراز عدم الرضا والسخط على ظلم واستبداد الحكومة، تحرك كل
هؤلاء تحت قيادة العلماء وتحولت حركتهم بمساندة من الصحف والوعاظ والخطباء إلى
نهضة ثورية عجزت معها الدولة عن استعمال العنف الذي توسلت به في حادثة "تنباكو"
وفشلت فيه.
لكن توالي الحكومات بين نهاية فترة الاستبداد
الناصري (1313ق) وبداية النهضة المطالبة بالعدالة (ح 1323ق)
ببرامج مختلفة كان أيضاً من الأسباب التي أدت إلى صحوة الناس أو إثارة شكوكهم تجاه
بعض حكام ورجال الدولة. اهتم عليخان أمين الدولة (المتوفى 1322ق) والذي وصل إلى صدارة الدولة في بداية حكم مظفر الدين شاه، اهتم إلى حدٍ ما
بنشر المعارف وتوعية الأذهان، لكن حكومته لم تستمر، ومع مجيء مبرزا على أصغر
خان، الصدر الأعظم المعروف في نهاية العهد الناصري، وتعويض سابقه، تجدد
الاختناق واستؤنف الاستبداد الذي كان في الماضي، واستمرت المصاريف العشوائية
التي أثقلت كاهل الدولة ودفعتها إلى الاستدانة من الخارج. مع ذلك وبعد مدة قصيرة
برزت حركات معارضة للأتابك انتهت بخلعه وتولي الأمير عبد المجيد ميرزا عين
الدولة. لكن مجيء هذا الأخير واستبداده وانعدام العدالة في عهده زاد من سخط
العلماء عليه وأثار الفتن ضد دولته. كما أن ممارسات علاء الدولة حاكم طهران
غير المحسوبة العواقب في معاقبة مجموعة من تجار بازار طهران كان سبباً في إغلاق
البازار وتجمهر المعارضين لهذا الصنيع في مسجد "شاه طهران". وقد أثار
دعم عين الدولة لما قام به علاء الدولة غضب الشعب وثورته. وانتهى
الأمر بالمعارضين إلى تعطيل البازار والتحصن في زاوية "حضرة عبد
العظيم"، ولحق بهم مجموعة من طلاب المدارس والعلماء والوعاظ. كانت مطالبهم
تتلخص منذ البداية في عزل مستشار الجمارك البلجيكي مسيو نوز الذي كان
معروفاً بعنجهيته وإهانته للباس رجال الدين (الروحانيون)، وعزل حاكم طهران علاء
الدولة وتأسيس "دار العدالة" الحكومية – الذي كان يُقصد بها دار
الشورى الوطنية التي تُعنى بوضع القوانين والإشراف على التطبيق الصحيح للقانون.
لكن وجود مكتوب الشاه الخطي الذي يقضي بتأسيس
"دار العدالة" وتكليف عين الدولة بإجرائه لم يوقف صراع الدولة مع
المتحصنين. وأُوقف بعض الوعاظ الذين كانوا يحركون الشعب في مطالبته بدار العدالة
والقانون ونُفي بعضهم الآخر. وفي خضم هذا التجاذب بين الحكومة والمعارضة قُتل
أحد الطلبة على يد جنود عين الدولة، وعلى إثر ذلك انطلقت التظاهرات فأُغلقت
البازارات وتجمع المتظاهرون في المساجد للترحم على الطالب القتيل، فحاصرت قوات
الأمن المساجد وأطلقت النيران وقتلت العديد منهم. وفي
اليوم التالي توجه العلماء إلى مدينة قم وهددوا الدولة بمغادرة إيران إلى الخارج. أعقب دلك حالة من الفوضى والهرج اضطر على إثره
المطالبون بدار العدالة إلى اللجوء إلى السفارة البريطانية في طهران والتحصن بها.
ويوماً بعد يوم ارتفع عدد المتحصنين بها حتى وصل إلى ثلاثة عشر ألفاً، وطالبوا
لأجل إخلاء السفارة البريطانية بتحقيق مطالبهم المتمثلة في : عزل عين الدولة وعودة العلماء إلى طهران وافتتاح دار الشورى _ أي دار العدالة_ بالحكم على القتلة
في الحوادث الأخيرة بالقصاص وعودة المنفيين وإطلاق سراح المعتقلين في الأحداث
الأخيرة.
تزامناً مع هذه الأحداث بادر مجموعة من علماء
مدينة تبريز إلى ترغيب ولي العهد محمد على ميرزا الذي لم تكن تربطه علاقة
طيبة بعين الدولة في التوسط لإرجاع العلماء إلى طهران وتلبية مطالب المتحصنين. من
جهة أخرى ومع ارتفاع عدد المتحصنين إلى أكثر من أربعة عشر ألفاً وبفعل الضغوط
التي مارستها السفارة البريطانية على الشاه، اضطر عين الدولة إلى الانسحاب والاستقالة.
وعُين وزير خارجية حكومته ميرزا نصر الله خان مشير الدولة في مكانه، وأرسل الشاه من حاشيته من يستميل العلماء ويرغبهم بالعودة إلى طهران، كما أصدر
مرسومين متوالين (14 و 16 جمادى الثانية 1324 ق)
يقضيان بتأسيس "مجلس الشورى الوطني" الذي يضم "منتخبي الدولة"
بقصد "المشاورة والتدقيق" في "مهام وشؤون الدولة والمملكة والمصالح العامة". مما أدى إلى انتصار نهضة المطالبين بالعدالة والقانون وخروج المتحصنين من السفارة. ورغم التضييقات التي مارسها رجال القصر فيما بعد فإن
"القانون المنظم للانتخابات" وُضع وصودق عليه (رجب 1324ق).
وفي
الأخير وبانتخاب ستين وكيلاً من طهران انعقد أول مجلس – والذي كان في أساسه
مجلساً ثورياً بصلاحيات مجلس المؤسسين والمقننين _ بدون حضور النواب المنتخبين في
المحافظات الأخرى، وكان ذلك في قصر "ﮔلستان" بحضور الشاه بتاريخ (17 شعبان
1324ق).
لكن الانتخابات في باقي الولايات والمحافظات
تأخرت بسبب عدم رغبة الدولة و بسبب مضايقات المعارضين للمشروطة، ولم يلتحق أحدٌ
من منتخبي المحافظات بطهران لمدة طويلة. مع ذلك فقد وُضع القانون الأساسي في 52
مادة وصودق عليه من طرف المجلس، ووقع عليه الشاه في وقت متأخر جداً (14 ذو
القعدة) بسبب تماطل رجاله، وبعد أسبوع واحد من التوقيع (23 ذو
القعدة) توفي الشاه.
تولى الحكم بعده نجله محمد علي ميرزا الذي
اتخذ لنفسه اسم علي شاه ، وبخلاف تظاهره في عهد صدارة عين الدولة
بتعاطفه مع هذا التيار، ناصب محمد علي شاه المجلس العداء مند بداية ملكيته.
وفي مراسم جلوسه على العرش كلف وزراءه بمعاداة المجلس ومعارضته. فتعرض أساس
"دار الشورى" و"دار العدالة" للتزلزل مدة معينة، لكن تأسيس
الجمعيات في طهران وكل أنحاء المملكة أدى بشكل تدريجي إلى رفع هدا التزلزل، وردعت الفتن التي اشتعلت في تبريز لدعم المجلس و تقويته (21 دو
الحجة 1324ق) رجال القصر وأثنتهم عن استمرارهم في معارضة المجلس.
وأُجبر الشاه على إصدار مكتوب يقضي بقبوله للمشروطة[1].وأكمل المجلس في الأخير تتمة القانون الأساسي في 107 مادة
والتي كانت في الواقع تتمة أساس المشروطة وصادق عليه. وهكذا صادق المجلس الأول
على مبدأ تفكيك السلط الثلاثة للمملكة – التي ما كان لدار العدالة أن تؤسس بدونها-
قام المجلس بتعديل ميزانية الدولة وإصلاحها، وأسس في إيران "البنك
الوطني" كما حدد مداخيل أقرباء الشاه، وحدد أيضاً راتباً مناسباً للشاه.
أدى
دلك إلى إثارة حقد الشاه وحنقه على المجلس، وبتحريك منه تجمع معارضو المشروطة –
الذين كان دافع بعضهم أغراض ومصالح شخصية محضة- في ساحة "توبخانه"
بطهران. فتصاعدت الأمور والتظاهرات والفتن وتعرض المجلس وأصحاب المشروطة
لتهديد الأشرار، لكن الشاه سيضطر إلى التسليم تحت ضغط مقاومة مؤيدي المشروطة وصلابتهم. وانتهت هذه الفتنة –أو بتعبير المؤرخين- هذا الانقلاب العقيم دون وقوع
حوادث شديدة (ذو القعدة 1325ق). لكن بعد مدة وبسبب تعرض سيارة الشاه لتفجير قنبلة
دون أن يصاب بأذى (محرم 1326ق) قرر إغلاق المجلس وهدمه. وأيد الشاه في هذا القرار
بعض رجال قصره وعدد من العلماء المعارضين للمشروطة. فتحصن في المجلس نفر من رؤساء
المشروطة أمثال ملك المتكلمين وميرزا جهاﻧﮕير خان شيرازي وسيد جمال اصفهاني.
نصب الشاه القائد الروسي ليافوف على رأس الحكومة العسكرية في طهران. وبعد
عدة أسابيع من الصراع والتجاذب وتبادل الرسائل بين الشاه والمجلس، حاصر جنود
الشاه المجلس ثم قصفوه بالمدفعية (22 جمادى الأولى 1326ق). كما تعرضت منازل
مجموعة من الأشخاص كانت مجاورة للمجلس للقصف والدمار أو النهب. وقُتل عدد آخر من
أمثال ميرزا ابراهيم آقا وكيل تبريز، وأُسر عددٌ آخر كـميرزا جهاﻧﮕير خان
شيرازي مدير الصحيفة المعروفة "صور إسرافيل" وملك المتكلمين
واعظ، ثم قتلوا بعد ذلك في بستان الشاه بأمره. كما تحصن عددٌ آخر في سفارات
بريطانيا وفرنسا أو سفارات أخرى واختفى عددٌ آخر.
وهكذا حل الشاه المجلس وهدمه. وتم إحياء
استبداد القاجاريين ثانية، ولأنه استمر أكثر من سنة واحدة سُمي بـ "الاستبداد
الصغير" . وقد قوبل هذا الاستبداد الذي استمر بنفس العنف السابق في
طهران بالرفض والمعارضة في محافظات أخرى. فقامت تبريز بمجاهديها ضده. وهنا يبرز
اسم ستارخان وباقرخان اللذان أدارا هذه المواجهة بشجاعة. أما في أصفهان
فقد أبدى البختياريون رد فعل قوي. وفي كيلان ثار الشعب كله، وكذلك في العديد من
المدن الأخرى كمشهد واسترآباد. فيما حرم علماء النجف أداء الضرائب لهذه الدولة.
ففكر الشاه بتأسيس مجلس تحت اسم "مجلس الشورى الحكومي" وكان هذا يعني
في الواقع تغيير القانون الأساسي الذي لا يمكن أن يقبل به ممثلي الشعب. وفي
الأخير ومع قيام البختياريين في أصفهان (ذو الحجة 1326ق) وقيام مجاهدي كيلان (محرم 1327ق) اتخذت مقاومة الشعب لاستبداد الشاه شكلاً قاطعاً.
دخلت جيوش مجاهدي الشمال برئاسة ﺳﭘهسالار تنكابنى والمجاهدون البختياريون
بقيادة القائد اسعد بختيارى إلى طهران بتاريخ 27
جمادى الثانية 1327ق. ثم وَجَد محمد علي شاه – الذي لم يقدر على المقاومة-
نفسه مضطراً للتحصن في السفارة الروسية في منطقة شميران. وبمجرد فتح طهران على يد
الوطنيين تجمع في عمارة "بهارستان" عدد من نواب الدورة الأولى إضافة إلى
الوزراء المستقيلين والمجتهدين وعدد من التجار ورؤساء النقابات، فعين المجلس
هؤلاء بصفتهم اللجنة العليا لخلع الشاه محمد علي شاه وتنصيب نجله اليافع أحمد
ميرزا على رأس السلطة. وانتُخب عضد الملك –رئيس أسرة القاجاريين- الذي
كان له صلة مند بداية النهضة بالمطالبين بالمجلس ودار العدالة، نائباً للملك. وهكذا تسلم رؤساء المجاهدين السلطة ووصلوا إلى
النفوذ، فعُين ﺳﭘهسالار تنكابنى وزيراً للحرب والجنرال اسعد وزيراً
للداخلية وباقي معاونيهم وزراء في الحكومة. مع نهاية الاستبداد الصغير انتهت
أيضاً الحكومة العسكرية، فحررت الصحف وأُعيد المبعدون و أوقف أو نُفي معارضو
المشروطة وحوكم البعض الآخر منهم. ثم أُعلنت الانتخابات وأُجريت بسرعة. وهكذا
تشكل المجلس الثاني في طهران بعد خلع الشاه المستبد مباشرة (ذو القعدة 1327ق).
وفي هذا المجلس تم تكريم مجاهدي الانقلاب كـ يفرم ارمنى من قادة مجاهدي
كيلان، عُين مسؤولاً عن "النظمية"، كما تم تكريم مجاهدي تبريز ومقاوميهم بإعطاء لقب سردار ملى" (القائد الوطني) لستارخان ولقب "سالار
ملى" (السيد الوطني) لباقرخان. واختير أخ الشاه محمد حسن ميرزا ولياً
للعهد.
وتأسس في المجلس حزبان : الحزب الاعتدالي والحزب الاجتماعي (الديموقراطي). وأوجد
فضاء مناسب جديد لممارسة الديموقراطية، واتضح مفهوم المشروطة لعدد من النواب والممثلين الدين لم يدركوا معناها لحد تلك الساعة، وبرزت على الساحة المواجهات
الحزبية والاختلافات الشخصية بشكل تدريجي.
وهكذا انتهت
إثارة الثورة الدستورية، لكن هذه الثورة التي تحققت كانت قابلة للانكسار والتضرر
مع وجود ملك صغير السن وقصر متزلزل وخصوصاً في ظل وجود خلافات بين القادة والتي
وصلت إلى حد اغتيال سيد عبد الله بهبهانى (رجب 1328ق)،
ونفي بعض المتعصبين الديموقراط إلى الخارج (جمادى الثانية 1327ق) وكذلك في مقابل التحريضات الدائمة للروس والإنجليز وتدخلهم في الشؤون الجارية وسعيهم لإرجاع محمد علي شاه (شعبان 1329ق)، وكذلك وجود مشاكل كثيرة متعلقة بالسياسة الخارجية والداخلية. ففي ظل هذه الظروف لم يكن بقاء الهوية الحقيقية للمشروطة مضموناً. لا
يتسع المجال لشرح تفاصيل هذه الأوضاع وفي التطويل في شرح مقدمات النهضة. لكن هذه الإشارات
المجملة ترصد توالي الأحداث اللاحقة وفي نفس الوقت تؤدي إلى درك وتقييم انعكاس
هده الأحداث في أدب إيران في نهاية العهد القاجاري كما ينبغي ككشف الغطاء عن أهمية
دور كتاب وشعراء هذه الفترة في صحوة الأذهان وفي إفشاء الأسرار التي أدى عدم
الانتباه إليها إلى توقف عجلة تطور هده النهضة. وواضح أن من بين كتاب الصحف والشعراء والخطباء الذين برزوا في هدا
العصر صنعوا لأنفسهم أمجاداً وذكرى خالدة لا تُنسى، نذكر من بينهم : ميرزا على
أكبر خان دهخدا، وميرزا جهاﻧﮕير خان "صور إسرافيل"، وسيد
جمال الدين واعظ، وملك المتكلمين اصفهانى، وسيد حسن تقى زاده، ومحمد أمين رسول زاده، وأديب الممالك فراهانى، ومحمد تقى بهار ملك
الشعراء و ...
[1] إن إصدار منشور "المشروطة" من طرف
مظفر الدين شاه، و وفاته المفاجئة بعد مدة وجيزة من صدور المنشور ترك في أذهان
الأجيال التالية انطباعاً طيباً شيئاً ما عن هدا الملك. "عدل مظفر" هدا
الاسم الذي بات بمثابة تاريخ المنشور و مادة لتاريخ وفاة الشاه، يمثل في الحقيقة
نهاية عهد استبداد مليء بالفوضى كان يشمل فترة ملكيته القصيرة. كانت ملكيته
استمراراً لنفس استبداد العهد الناصري، لكنها كانت تفتقد لسلطته و صلابته. إن
شخصيته الضعيفة و أسلوبه الخاص في الحياة لم يكونا في مستوى الانطباع الطيب الذي
اقترن "عدل مظفر" باسمه. نقل روايات مخزية و مذلة عن حياته الخاصة كانت
تدل على انحطاط القصر القاجاري. يمكن الرجوع إلى ما نقلته أخته تاج الدولة في
هدا الباب و إلى جزء من أسرار أحوال و أوضاع أسرته : خاطرات تاج الدولة (ذكريات
تاج الدولة) باهتمام منصوره اتحاديه 136\2 ، 2\71 و كذلك 1\53-89. يقارن ذلك بما
جاء في تاريخ غفاري ، و هي خواطر محمد على غفاري النائب الأول لخادم
الشاه. أدى ضعف هدا الملك إلى إطلاق يد حكامه و عماله لممارسة أشد القمع في حق
الشعب لمدة طويلة. كان هؤلاء العمال و الحكام المستبدين الدين رافقوا الشاه من
تبريز إلى طهران بسبب جهلهم و سذاجتهم غالباً موضوع التنكيت و التمثيل لدى ظرفاء
طهران. كما كانت هناك أناشيد عامية فيها إهانة و تحقير للشاه نفسه يرددها أطفال
المدينة. للإطلاع على الجزئيات راجع : عبد الله مستوفى، زندكانى من،
2\10، و أيضاً : ص 45،41. و قد كان أخوه ظل السلطان المعارض و المنافس له
وراء نشر جزء من تلك الشائعات المخزية. يمكن درك ضعف شخصية الشاه و سذاجته و
ميوعته أيضاً فيما جاء في كتاب سفرنامه خراسان لميرزا علينقي حكيم الملك،
الطبعة الحجرية، ص: 180-170. كان يتجلى هدا الضعف بوضوح في أسفاره إلى أوروبا رفقة
حاشيته. يمكن الإطلاع على دلك في تقرير المضيف و مسؤول التشريفات في الدولة
الفرنسية آنذاك كزاويه باولى و
الذي نشره في كتاب بعنوان اعليحضرت ها ، راجع: عباس إقبال، مجله
"يادكار"، السنة الأولى، 1\40-13.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق