نقلاً عن كتاب "روزگاران" لعبد الحسين زرينكوب بتصرف
انتهت سلطة القاجاريين في إيران تقريباً ﻣﻨﺬ تعيين احمد شاه وزير
حرب الانقلاب، قائدَ الجيش رضا خان رئيساً للوزراء سنة 1923 ورحل هو نفسه إلى فرنسا قصد النزهة والترفيه. وكان ما
حمله معه هو اسمه وحقوقه المَلَكية. تمكَّن "قائد الجيش" - الذي كان قبل
وصوله إلى منصب رئاسة الوزراء وزيراً للحرب أوائل عمر الانقلاب، وبدعم غير ملحوظ لكنه محسوس، من طرف مخططي الانقلاب- تمكَّن
من صعود سلم السلطة والنفوذ درجة درجة، بدءً من مرحلة الجندية وصولاً إلى مرتبة
القيادة في مدة تقارب العشرين سنة، ومن مرحلة القيادة إلى المَلَكية، بدعمٍ من
الانجليز وباستغلال الأوضاع السائدة في البلاد في مدة تقل عن ثلاث سنوات.
وقد كان "قائد الجيش" طيلة فترة غياب الشاه القاجاري – الذي لم
يجد مجالاً للعودة إلى البلاد بعد خروجه منها– الحاكم الحقيقي والمطلق العنان
لإيران، بالرغم من محاولة المجلس والأقلية النيابية وولي العهد محمد حسن ميرزا وقائد
الأقلية سيد حسن مدرس الوقوف ضده. لكن أحداً لم يستطع الحيلولة دون تقدمه
في الحد من سلطة ونفوذ القاجاريين، ونجح بفضل توفر الظروف وبفضل القدرة والكفاءة
التي تفرد بها عن سائر رجال عهده في شق طريقه نحو حيازة تاج وعرش احمد شاه الذي
أهملهما مرات عديدة. لقد برز اسمه في الساحة السياسية مع الانقلاب الذي قاده الكاتب
الصحفي الشاب والمتحمس والمرتبط بالسفارة البريطانية سيد ضياء الدين طباطبائي.
كان عقيد "قزاق خانه" و م يكن بعد معروفاً بين الأوساط السياسية والصحفية.
وُلد رضاخان ميربنج المعروف
بقائد الجيش في قرية "آلاشت" التابعة لمنطقة "سواد كوه" في
"سارى". نشأ في مرحلة شبابه على يد رؤساء القازاق، وكان يُعرف بينهم
باسم رضا ماكسيم لمهارته في استعمال السلاح الرشاش "ماكسيم". فاشتُهر
بينهم من يومها بالشجاعة والكفاءة القيادية والانضباط العسكري. ترأس في سن
الأربعين فوجاً من القازاق. وقد أكد الجنرال البريطاني ادموند آيرونسايد الذي
كان له دور فعال في تخطيط الانقلاب ضد احمد شاه، و الذي كان هدفه -حسب قوله- تأمين منافع الدولة والبلاد، أكد أن رضاخان الرجل
الوحيد الذي يصلح –حسب تعبيره– لإنقاذ إيران. ترقى "عقيد القازاق" إلى
درجة العميد بسرعة، وتقلد مهام وزارة الحرب في حكومة الانقلاب.
أعاد قائد الجيش ورئيس الوزراء
فيما بعد، الانضباط والنظام اللازم لإيران. كما جَدَّ في القضاء على طغيان العشائر
وإخماد الفتن وتثبيت الأمن في فترة انهيار القاجاريين.
إن مواجهاته لهذه الثورات (ثورة جنگلی ها في گيلان، وثورة الكولونيل محمد
تقى بسيان في خراسان، وفتنة إسماعيل آقا كرد المعروف بسميتقو في آذربايجان،
وثورة الشيخ خزعل حاكم المحمرة) لم تدم طويلاً، وجعلت منه قائداً مقتدراً وسياسياً
محنكاً، مما دفع عدداً من الوطنيين ومؤيدي التجدد والرقي في المجلس والصحافة إلى
دعمه والتعاون معه. كما اعتبر بعض هؤلاء –بالرغم من إيمانهم بأنه جاء إلى الحكم وعزل
القاجاريين بسياسة بريطانية – سعيه في إحلال الأمن ونشر الثقافة الغربية في تلك
الأيام تجديداً جديراً بالتأييد.
حين كان أحمد شاه في باريس سعت
أقلية المجلس بقيادة سيد حسن مدرس إلى إرجاعه إلى إيران قبل أن تتهيأ ظروف انقراض
الدولة القاجارية من طرف أعدائها. لكن هدا المخطط لم ينجح، ونجحت مبادرات وتحريكات
قائد الجيش وعدد من نواب المجلس الذين تظاهروا ضد الدولة القاجارية بشدة في ترغيب
الرأي العام الإيراني حينها في خلع أحمد شاه من السلطة، وإنهاء سلطان القاجاريين.
مع ذلك فإن الأصوات التي تعالت من قِبل قائد الجيش بإعلان نظام الجمهورية قوبلت
بالرفض من طرف رجال الدين الروحانيين، لأنهم كانوا يرون أن نظام الجمهورية في
مفهومه التقليدي يقترن بتيارات العلمانية واللائكية التي عُرفت بمعارضتها للدين
الإسلامي في تركيا، لذلك قاوموا هذا الطرح بشدة. في خضم هذه الأجواء قدَّم قائد
الجيش استقالة شكلية لعدة أيام قصد إنهاء ما أثارته فكرة الجمهورية من قلاقل وفتن،
وأتاح الفرصة أمام المجلس بأقليته الصغيرة للتصويت لصالح خلع أحمد شاه من السلطة.
وهكذا تلقى هذا الأخير في فرنسا بكل أسف، لكن ببرودة أعصاب خبر خلعه وسقوط سلسلة
القاجاريين. وهكذا عُين قائد الجيش بصفته قائداً عاماً للقوات الإيرانية على رأس
السلطة بشكل مؤقت (نونبر 1925)، وبعد عدة شهور صادق المجلس على مرسوم إسناد الملكية له، وتربع على العرش
بصفته ملكاً لإيران في ماي 1926. وبالرغم من المعارضة التي شهدتها آخر أيام المجلس لتغيير الملكية ومعارضة
أشخاص كـ : مصدق السلطنة وسيد حسن تقى زاده وحسين علاء وإبراهيم
حكيمى لهذا الأمر معارضة صريحة، فإن أحمد شاه في باريس أظهر عدم استعداده
لاستمرار الملكية في مثل هذه الظروف والأوضاع.
فرضت الملكية الجديدة -التي ظهرت على الساحة السياسية
بواسطة رضاخان ميربنج وأخذت مكان الدولة القاجارية الآيلة للانقراض -نفسها
كدولة مترقية ومتجددة وإصلاحية، وكان يجب أن تحد من سلطة الملاكين الكبار ورؤساء
العشائر وأمناء المذهب، وأن تزيل كل ما كان يُعتقد أنه تسبب في ضعف وانحطاط الدولة
القاجارية المنقرضة، كل ذلك في إطار إمكانيات الحكومة الدستورية ظاهرياً وبالحفاظ على المجلس ودار العدالة وهيأة الدولة والصحافة
الحرة ظاهرياً.
كما تجمدت الأحزاب والصحف ثم
انقرضت، كما أن تجربة عدد من الشبان الاشتراكيين الذين كانوا ينشطون بشكل خفي في
إطار حزب بسيط، تحت قيادة الدكتور تقى ايرانى، أستاذ الفيزياء وناشر مجلة
"دنيا" أوقفت وعُطِّلت وحالت إرادة الملك الديكتاتور دون حصول أي حركة
اجتماعية وإصلاحية. كما أن الأشخاص الذين كانوا يتولون مناصب وزارية ويدركون هذه
الحقيقة، كانوا يأخذون بقراره في نهاية الأمر، ومن كان يتجاوزه من الوزراء والحكام
كان يلقى مصيره بنوع من الأنواع. ومع ذلك كانت علاقته بالسياسية الإنجليزية –على
الأقل في السنوات العشر الأولى من سلطنته– متجذرة في الأذهان، ولم يكن معارضوه
يتوانوا من تكرار ذلك والتذكير به، خاصة الروحانيين والعلماء. وكانت تدابيره ضد
هؤلاء تفسر وتبرر من قبل العامة بهذا المعنى. حتى حرصه وإصراره على الأخذ بالنموذج
الحضاري الأوروبي وتوجهه نحو الشعور الشعوبي والقومي ضد العرب كان يُعد من وجهة
نظر الروحانيين ضلالاً متعمَّداً، ومغالطة كبرى يتوخى من ورائها إظهار السياسة
الإنجليزية في إيران على أنها سياسة كلية مبنية على التجديد والقومية والسعي نحو
تقليد الآداب والعلوم والفنون الأجنبية.
والشاهد على أنه كان خاضعاً
للسياسة البريطانية رغم ادّعائه توخي سياسة مضادة للأجانب، هو مفاوضاته التي
أجراها مع شركة البترول الإنجليزية لتجديد عقد عملها لمدة ستين سنة أخرى، ومصادقة
المجلس الرسمي عليها. ورغم أن تقى زاده حاول الدفاع عن نفسه بكونه كان
"آلية فعل وتنفيذ فقط" فاقداً الإرادة والاختيار، إلا أن ذلك لم يحل دون
اتهامه –كرضا شاه– بميوله وخضوعه للسياسة الإنجليزية. على كلٍّ لقد حرّك توقيع هذه
الاتفاقية وتطبيقها من طرف الشاه ووزرائه والمجلس الخاضع له، مشاعر عدائية ضد
الإنجليز، والتي كانت بدون شك مؤثرة في دعم الشعب والعوام لـ"هيتلر" في
سياسته المعادية للإنجليز، وحتى بعد استقالة رضا شاه وعزله، كانت سبباً في اهتمام
العديد من الشبان بسياسة الجار الشمالي المعتدلة في الظاهر، والثقة بالحملات الدعائية
بتأطير من الحركات اليسارية، ومن بينها "حزب تودة" (الحزب الشعبي
الإيراني).
لقد سعى رضا شاه في أواخر حكمه
إلى جلب صداقة بعض الدول الغربية حتى يحتمي بها عند الضرورة، وفي حال عدوان روسيا
أو بريطانيا عليه. حددت فرنسا صلتها به في إطار لا يفقدها صداقتها مع بريطانيا.
لكنه كان يميل إلى أمريكا أكثر، وهي كانت تظهر له ثقة، وكانت تمارس حينها سياسة
انطوائية، ولم تكن على استعداد لإعطاء التزام أو تدخل يجرها إلى مواجهة خارج
أمريكا. لذلك وجَّه الشاه اهتمامه بجلب صداقة ألمانيا، خاصة وأنها لم يكن يُنظر
إليها في إيران حينها كدولة استعمارية، بل كانت تتمتع باقتصاد جيد وكانت مستعدة
لتلبية حاجيات إيران في جميع النواحي والمجالات. وكانت هذه العلاقات وراء تأسيس
معمل الحديد والفولاذ.
توطدت علاقة إيران بألمانيا وازداد
نفوذها في إيران، مما أدى بسفارتي روسيا وبريطانيا إلى إبداء تخوف بلديهما من هذا
النفوذ، واعتبر هذان البلدان اللذان تحالفا ضد ألمانيا في الحرب العالمية أن صداقة
إيران لألمانيا تمثل خطراً حقيقياً. لكن إيران باتخاذها سياسة الحياد في الحرب
العالمية لم تلب مطالب المتحالفين في طرد الرعايا الألمان من أرضها. ونتيجة لذلك
دخلت القوات الإنجليزية والروسية فجأة إلى إيران في 24 غشت 1941 دون إشعار قبلي، وبذلك خضعت إيران لاستعمار التحالف. أصدر على إثر ذلك
الجيش الإيراني أوامر لقياداته بعدم المقاومة، ووجد الشاه نفسه مجبراً على ترك
إيران.
كلف الشاهُ محمد علي فروغي
المعتزل في بيته بالأخذ بزمام الأمور. كانت استقالة الشاه أمراً لازماً أعقبه
الكثير من الجدل واللغط حول من سيخلفه. في الأخير استقال لفائدة نجله محمد رضا
البهلوي، الذي كان ولياً لعهده منذ البداية. وهكذا انتهت فترة ملكية رضا خان
ميربنج في 15 شتنبر 1941، وتولى الأمر نجله محمد رضا الذي كان شاباً في 22 من عمره فاقداً التجربة العسكرية والسياسية. أما أبوه
فلم يعد بالإمكان بقاؤه في إيران، فاستقل سفينة حربية بريطانية نقلته إلى جزيرة
موريس، ثم نُقل بعدها إلى جهنسبورك في جنوب إفريقيا، وبقي منفياً فيها إلى أن توفي
في غشت 1944. دامت سلطته ست عشرة
سنة (1941/1925).
اعتبرت هذه المدة من وجهة نظر رجال
الدين الإيرانيين كابوساً وتهديداً للشريعة الإسلامية وللقائمين عليها. كان حكمه منذ
البداية يتسم بالديكتاتورية والاستبداد وشدة النفوذ. وقد أفضى به حرصه الكبير على
الملك والمال وعدم قبوله للآراء المخالفة وثقته المفرطة بفهمه ودرايته الشخصية في
أواخر عهده إلى حرمانه من مشاورات الرجال العاقلين والمحنكين.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
عهد ملكي جديد
اقترنت ملكية النجل باستعمار البلد وخضوعه لسلطة وإشراف المستعمرين في
طهران، وقد كانوا يرون أن الأمن ضروري لإيران في هذه المرحلة، حتى يؤمنوا مصالحهم
ويوصلوا التجهيزات والمساعدات العسكرية إلى روسيا عن طريق إيران. لذلك لم يفض
انتهاء استبداد رضا خان إلى حدوث ثورات وقلاقل كما كان الشأن في السابق.
استقر الوضع في البداية، وكانت قوى الاستعمار حريصة على تجنب كل ما من شأنه
زعزعة الاستقرار الداخلي ونشر الفوضى والإضرار بوحدة البلاد. وهكذا شهدت إيران
تعدداً ملحوظاً في الصحف، واتسع مجال الحريات، مما خلق جواً سياسياً جديداً سحب
بساط الإبداع والعمل من تحت أقدام بقايا النظام السابق، وفسح المجال أمام ظهور
وجوه جديدة على ساحة الحوادث وتأسيس أحزاب يسارية ويمينية بعد فترة طويلة من
الاختناق في عهد رضا خان.
كانت سلطة محمد رضا تنحصر في قصره
فقط، وفي قضايا ترتبط بالشكليات والتشريفات. كان مفتقداً لأي تجربة في الحكم، فصرف
وقته في البداية في ممارسة الرياضة واللهو والمطالعة، إلى أن بدأ يشارك في المجالس
الأدبية والعلمية بتشجيع وإيعاز من رئيس وزرائه العجوز. وشيئاً فشيئاً اكتسب معلومات
جيدة في الشؤون الإدارية والسياسية والعسكرية التي كان يبدي فيها رغبة واستعداداً.
حتى لما كان ولياً للعهد، وفي مرحلة الدراسة في إيران وسويسرا، فباستثناء اللغة
الأجنبية لم يتعلم سوى جزء من المعلومات العسكرية، واهتم بالرياضة. كانت الدولة في
بداية عهده مشتتة، فمجلس الشورى اتخذ موقفاً مضاداً للدولة، وصحف المتشددين تطرح
قضايا جديدة كل يوم أمام الدولة، وكثرة الأحزاب وقادتها المجهولون والمرتبطون في
الغالب بالاستعمار، وكذلك الجدل الدائم بين اليمين واليسار في المجلس كان يوجد
المزيد من التشنج، وأيضاً افتقاد رجال الدولة والوزراء للتجربة الديمقراطية، وتأسيس
الأحزاب المختلفة كالحزب المعادي للفاشية الذي أسسه مصطفى فاتح، وحزب الشعب
الإيراني (حزب تودة) الذي أسسه الشيوعيون، وحزب الإرادة الوطنية الذي أسسه سيد
ضياء طباطبائي، وعشرات الأحزاب الأخرى التي ظهرت على الساحة السياسية أسست
صحفاً مستقلة وغير مستقلة تجاوز عددها المائة...كل هذا كان يذكي الفوضى التي عمّت
البلد، ويحول دون اتخاذ أي قرار أو إرساء النظام من طرف الدولة.
من بين الرجالات التي كان لها
تجربة طويلة مع رضا خان نذكر محمد على فروغي (توفي 1942)، وهناك آخرون كان يميل إليهم المجلس والصحافة لتولي
زمام الأمور نذكر منهم : أحمد قوام السلطنة، وإبراهيم حكيم الملك. وهناك
آخرون كانت لهم طموحات برلمانية كـ سيد محمد صادق طباطبائي، والدكتور
محمد مصدق، وسيد حسن تقي زاده، وسيد ضياء الدين طباطبائي...
في الوقت الذي كانت الحرب ما تزال
في أوجها أعد فروغي اتفاقية ثلاثية أخرج بموجبها إيران من دولة مستعمرة إلى دولة
متحدة مع قوى التحالف (1941). في نهاية الحرب ترأس إبراهيم حكيمي –حكيم الملك- الحكومة الثانية
وعمل على حل قضية أذربيجان وتخليصها من الاستعمار الروسي. جاء بعده أحمد قوام ليكمل
عمله ولتتحرر أذربيجان في عهده.
مع نهاية استعمار إيران عرف الجو
السياسي تغييرات عديدة، وفرض محمد رضا نفسه كمشرف ومراقب لشؤون الدولة بلا منازع. وجاءت
كلٌ من حكومتي عبد الحسن ﻫﮋبر (1948) و محمد ساعد (1949) اللتين لقيتا معارضة من الرأي العام، لتفسحا المجال أكثر أمام الملك
الشاب الذي لم يكن عمره يتجاوز الثلاثين سنة بعد، للتدخل في شؤون الحكومة وقوات
الجيش. كما أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها في جامعة طهران على يد صحافي (فبراير
1949) أتاحت الفرصة له
ولحاشيته لحل الأحزاب المعارضة وترويع وترهيب المجلس والصحف. وفي سنة 1949 أسس محمد رضا
"مجلس المؤسسين" ليمارس نفوذه في منح صلاحيات للشاه في عزل الحكومة وحل
المجلس. وهكذا نجح الشاه في الأخذ بزمام الأمور، واختار رؤساء ضعاف الشخصية وألحق
الحكومة بملكيته.
وعلى إثر ذلك حوصرت الصحافة
وتوبعت الأحزاب المعارضة، وساد نوعٌ من الاختناق السياسي في البلد. وبعد انتهاء ولاية
المجلس ازداد تدخل الدولة في منع انتخاب معارضيها في المجلس. وعلى إثر ذلك تحصن الدكتور
محمد مصدق في القصر وجمع أنصاره ومؤيديه (الذين سيؤسسون فيما بعد الجبهة
الوطنية الإيرانية)، وأبدوا معارضة شديدة للانتخابات الجارية. ترأس الحكومة
الجديدة الجنرال حاج علي رزم آرا، رئيس أركان الجيش في شهر يوليوز 1950، لكنه لم ينجح في التغلب على الأوضاع المتشنجة وحل قضية
البترول، فقامت ضده عدة ثورات دموية قادها كلٌ من آية الله حاجي سيد أبو القاسم
كاشاني، وبعض أعضاء الجبهة الوطنية، وأحزاب أخرى، لكنها لم تدم طويلاً لعدم
قدرتها على مواجهة الصعوبات، ولأنها لم تكن محط ثقة من المجلس، نذكر منها حكومة رجبعلي
منصور، وحكومة حسين علاء، فأجبرت على الاستقالة. لكن مقترح مصدق وأطرافه
بشأن تأميم صناعة البترول صودق عليه من طرف المجلس 20 مارس 1951، وبعد استقالة حسين علاء من رئاسة الحكومة (ماي 1951) قَبِل الدكتور محمد مصدق –الذي عرضت عليه قبل
هذه المرة رئاسة الوزراء من طرف الشاه ورفضها (1944)– دعوة أكثرية المجلس لترأس الحكومة، وكان ذلك شهر ماي 1951، وانصرف لتحضير قانون تأميم صناعة البترول، لكن الشاه
تلقى قبوله لرئاسة الوزراء ببرودة وكراهية، كما أن عدداً ممّن تحصنوا معه في القصر
وتعاونوا معه في التأميم لم يخفوا عدم رضاهم بذلك في حين انفصل عنه عددٌ آخر.
مع ترأس مصدق لرئاسة
الوزراء حصل انفراج في الحياة السياسية التي كانت تعرف اختناقاً في عهد حكومة عبد
الحسين هزبر ومحمد ساعد. وبعث الحياة في الصحافة من جديد، واستأنفت
الصراعات بين الأحزاب السياسية، واضطر محمد رضا للقناعة بالملكية وترك
الحكومة للدولة.
ورغم أن مصدق كان كبير السن إلا
أنه أصر على تطبيق برنامجه الذي يشمل تأميم البترول وإصلاح قانون الانتخابات. وقد
تعرض مراراً لصعوبات ومشاكل كان وراءها الشاه، ليجبره على الاستقالة، لكنه تابع
برنامجه حتى النهاية، مما حذا بالشاه للتفكير في إيجاد سوء تفاهم بينه وبين حاشيته
وأتباعه وبذلك يهيئ الأرضية اللازمة للإطاحة به. وهكذا خطّط للانقلاب عليه بأياد
أمريكية وإنجليزية، فتمت الإطاحة به ومحاكمته في محكمة عسكرية (18 يناير 1954).
بعد ذلك تسلم فضل الله زاهدي الوزير
السابق في حكومة مصدق زمام الأمور. وعاد الشاه، الذي كان قد فرّ إلى الخارج أيام
الانقلاب على مصدق، و أعاد معه حكومة الفساد والاستبداد التي عرفتها إيران في
أواخر العهد الناصري، من حبس واعتقال ونفي المعارضين وأخذ الرشوة وقبول الهدايا
الباهظة والمساعدات المجانية من الأمريكيين... وتمّ حل قضية البترول كما خَطَّط
لها مصممو الانقلاب بواسطة علي أميني، وهو من الوزراء السابقين في حكومة
مصدق، وباتت الحكومة رهن إشارة مصممي الانقلاب غير الظاهرين ومنفذيه الظاهرين. ومن
حينها لم يحدث أي أمر أساسي في إيران لا يخضع للتبعية المطلقة والتأمين الشامل
للمصالح السياسية والعسكرية الأمريكية.
كانت حكومة زاهدي امتداداً
للاختناق والفساد وأنواع التجاوزات، وتصفية الحسابات الشخصية، وضيَّعت هذه الحكومة
جزء كبيراً من أموال خزانة الدولة، وكل المساعدات المالية التي كانت تتلقاها من
أمريكا بدعوى رفع الصعوبات والمشاكل المالية التي تسببت فيها حكومة مصدق. بلغت
مفاسد زاهدي حداً كبيراً لم يعد معها الشاه يتحمل حكومته أكثر من ذلك. لم تستطع
حكومته ومجلسه محو مشاعر العداء للأجانب التي كانت سائدة في فترة حكومة مصدق. امتد
فساد حكومة زاهدي حتى خارج إيران. فقرر محمد رضا الاستعانة بالأجانب واغتنام جو
الرعب والاختناق الذي أوجده زاهدي لاستعادة قدرته وسلطته. فجاءت حكومة حسين
علاء (أبريل 1955)، وتلتها حكومة الدكتور منوجهر إقبال، لكن هذه الأخيرة اعتُبرت في
الخارج مستبدة وخارجة على قواعد الحكومة الديموقراطية، فكان جواب الشاه على ذلك
إيجاد حزبين، حزب المليون وحزب الشعب، أما حزب المليون فيقوده الدكتور إقبال الذي
كان يعتبر نفسه خادماً للملك، وحزب الشعب بقيادة أسد الله علم الذي كان
يعتبر نفسه غلاماً للشاه. كان كلا الحزبين تابعين للشاه. كانت حكومة إقبال بمثابة
مظلة لحكومة الشاه. حين جاء شريفي إمامي تابع نفس النهج في الطاعة والولاء
للشاه حتى أجبر على الاستقالة بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة واعتصام المعلمين.
بعد ذلك وبدعم من السفارة
الأمريكية استلم الدكتور علي أميني السفير السابق لإيران في أمريكا، والذي
يحظى بثقتها، استلم رئاسة الوزراء (5 ماي 1961). لكن هذه الحكومة
التي حالت دون تدخل الشاه في جزئيات شؤون الحكم وتوسيع نفوذه المتزايد لم ترق له.
فتوسل بما يستطيع لعزله وتولية صديقه السابق وصاحب ثقته أسد الله علم (21 يوليوز 1963). فجدت هذه الحكومة في إسناد أي نوع من الإصلاحات لشخص الشاه، فروجت لإصلاحات
ادعى الشاه أنها جزء من سلسلة من الإصلاحات الاجتماعية وسماها فيما بعد بـ "الثورة
البيضاء" أو "ثورة الملك والشعب".
لكن هذه "الثورة
البيضاء" كانت تتضمن أموراً أثارت غضب رجال الدين وسخطهم، كما أن مصادقة
حكومة علم على قانون يتعلق بانتخابات الجمعيات في الولايات والمحافظات كان يحوي
مواد غير مقبولة لدى الروحانيين أيضاً. وفي ظل معارضة وانتقاد حوزة الروحانيين في
مدينة قم ضد الحكومة برز اسم الإمام الخميني –الذي كان يسمى حينها
آية الله خميني- بسبب انتقاداته الصريحة والشجاعة. فلقي ذلك تأييداً ودعماً من عامة
الشعب، كما أن تشديد الخناق على الصحافة اعتُبر لدى العامة والروحانيين على حد
سواء، ممارسة لمزيد من التضييق، ممّا ترك انطباعاً سلبياً لدى الرأي العام. تعرضت
حكومة علم على يد الإمام الخميني لأشد أنواع المعارضة وأكثرها صراحة
وقاطعية. واعتبر الروحانيون ممارسات رئيس الحكومة أسد الله علم موجبة
لإفساد الدين الإسلامي وشريعته وتعدياً صارخاً على القانون الأساسي. مع ذلك استمر
في إصلاحاته التي كانت شاملة للمواد السداسية، والتي كانت تحتاج من وجهة نظر
المجتمع الإسلامي إلى تأييد من طرف الروحانيين. فعرضها على المصادقة (فبراير 1963) واعتبر إجراءها لا يتوقف على مراجعة آراء الفقهاء. وكان
هذا التصرف إعراضاً صريحاً للشاه وحكومته عن حكم الشريعة. حين خاطب محمد رضا أثناء
إجرائه لجزء من الإصلاحات أهالي قم وجه إهانات شديدة للروحانيين اعتُبرت إعلان حرب
ضدهم. فاتخذ العلماء والطلاب والفقهاء وكثير من متديني البازار والإدارات موقفاً
معارضاً من الدولة. شهدت السنة الموالية حادثة "القيام العام" في طهران
(5 يونيو 1963) وأورد الإمام الخميني خطاباً شديد اللهجة في حق الشاه
وحكومته، مما أدى إلى توقيفه ونفيه خارج إيران، ونعت معارضة أتباع الخميني داخل
البلد بـ "الرجعة السوداء" وإدانتها بشكل شديد. لكن كل هذه المضايقات
للروحانيين، ومن جملة ذلك نفي الإمام الخميني إلى تركيا والعراق، لم يكن لها نتيجة
تذكر، بل على العكس من ذلك أثارت معارضة الرأي العام لها. ونتيجة لذلك برزت في بعض
أنحاء إيران ممارسات تخريبية من طرف عدد من الجماعات المتدينة ضد الشاه.
أفضت سياسة الشاه المعارضة
للروحانيين، والتي نهجها رؤساء وزرائه : علم ثم حسنعلي منصور و أمير
عباس هويدا إلى الإفراط في التبعية للغرب، والحرص الشديد على حفظ مصالح
أمريكا، وتطبيق مخططات مستشاريها في إيران. أبعدت هذه المخططات الأمريكية إيران
كلية عن التقاليد الوطنية والمذهبية، وجرّتها إلى المزيد من الإفراط في الطاعة
للغرب، وأدخلتها في المعسكر الغربي المعادي للإتحاد السوفيتي، وهي لم تكن تأمن حتى
جانب جارتها الجنوبية العراق. أما المشاريع السياسية الاجتماعية فكان يُعوَّل على
أمريكا في تأمينها. وكانت إيران تعتقد أنها آمنة الجانب من الجبهة الداخلية، وكأنها تناست معارضة عامة الشعب بقيادة
الروحانيين. أما احتفالات العرش بالذكرى الخمسينية للملكية وخاصة الاحتفالات التي
أقيمت بمناسبة مرور 2500 سنة على قيام النظام الشاهنشاهي في إيران، فعوض أن تبرز للعالم عظمة إيران
وجلالها وتاريخها التليد، كرست لدى الرأي العام العالمي فقر الشعب وسخطه على
الأوضاع وطيش الدولة. ثم إنه في السنوات الأخيرة لملكية الشاه كثرت مصاريفه
ومصاريف سفر وزرائه وممثليه إلى الخارج.
كان الشاه محمد رضا قد كدس أموالاً كثيرة بعد عودته من فراره إثر الثورة
الفاشلة على مصدق (15 غشت 1953)، ومنذ ذلك الوقت بدأ
يتدخل في المشاريع العمرانية والمعاملات الحكومية. وهكذا أصبح له ولأفراد عائلته
يد في كل المشاريع الاقتصادية في البلد ممّا أثار في بعض الأحيان حفيظة بعض مدراء
البنوك ومسؤولي التجارة والصناعة.
ازدادت وتيرة التدخل الشخصي للشاه
في شؤون البلد في حكومات كل من أسد الله علم وحسنعلي منصور وأمير
عباس هويدا وجمشيد آموزگار فلم يعد يلتفت لآراء أطرافه وحاشيته. وهكذا
عزل عدداً من رجالاته الذين خالفوه الرأي، وحقّر آراء البعض الآخر ممّن كانوا يرون
في سياسة استمالة رجال الدين سياسة معتدلة. وفي السنوات الأخيرة كان يفسِّر كل نقد
يُوجه إليه على أنه معارضة لشخصه.
لكن محاولة توسعة وتنمية بعض
الصنائع الداخلية يعتبر أمراً مهماً، لكنه لم يحقق لإيران الاكتفاء الذاتي. أما اهتمامه
الخاص بأخذ مظاهر الرقي والتمدن الغربي لم يكن يراعي خصوصيات مجتمعه واحتياجات
بيئته.
وفي النهاية وحين أجبره غضب وقيام
الشعب على ترك إيران، لم تمتد إلى نجدته أي يد من طرف الغرب الذي كان خادمه المطاع
مدة عشرين سنة الأخيرة. ومع خروجه من مطار مهرآباد انتهت الملكية البهلوية. أما
حكومة شابور بختيار التي أقامها لحفظ ظاهر الأمور وأقام بجانبها مجلساً
ملكياً صورياً فلم تدم أكثر من 37 يوماً.
إن عودة الإمام الخميني من باريس
وحرارة الاستقبال الذي ووجه به كان بمثابة إعلان لانتفاء وسقوط ملكية الأسرة
البهلوية.
بعد الخروج الاضطراري للشاه من
إيران قضى آخر أيام عمره متنقلاً بين المغرب والمكسيك وبانما. وافته المنية في مصر
سنة 1980، ودفن في مسجد الرفاعي
بالقاهرة. تزوج من ثلاث نساء وخلّف أربعة أولاد.
استمر حكم الأسرة البهلوية –الأب
والابن- ما يقارب نصف قرن (1925/1979)، وكان في أغلب فتراته
معارضاً لرجال الدين والشيعة ومصطدماً معهم. أما أهم أهداف هذه الأسرة والمتمثلة
في هدفين رئيسيين : الحداثة والتجديد لحد الإفراط في التبعية للغرب والتوجه إلى
إحياء التاريخ القديم لإيران، فإنه كان يتعارض إلى حد كبير -على الأقل في ذلك
العهد- مع نظر الروحانيين ونفسية أكثر المسلمين. كان نهج الحكومة البهلوية يرمي في
الظاهر إلى حفظ مبادئ وأركان الثورة المشروطة، لكنه جعل من الاستبداد والتفرد
أساساً لملكيته.
وخلاصة القول فإن ثقافة إيران في
عصر أولئك أوجدت اتجاهاً جدَّ في تحقيق الحداثة والتجديد، واتجاهاً آخر سعى إلى
إحياء الماضي التليد لإيران، نذكر من بين الذين ينتمون إلى الاتجاه الأول : علي
أكبر داود، وسيد حسن تقي زاده، وسعيد نفيسي، ومن التيار الثاني
نذكر الأسماء التالية : إبراهيم بور داود، وحسن بير نيا. وكان هناك
أسماء أخرى اتخذت منحى وسطاً أمثال : محمد قزويني، ومحمد علي فروغي، ورشيد
ياسمي، وملك الشعراء بهار، وساهمت في التقريب والتلفيق بين التوجهين.
من بين باقي المشاهير فإن اسم علي أكبر دهخدا برز في مجال اللغة والأدب، وعلي
نقي وزيري سطع نجمه في عالم الموسيقى، وحسين بهزاد في فن المينياتور، ورضا
كمال شهرزاد اشتهر في المسرح، وهناك أسماء كثيرة أخرى لا يسع المجال لذكرها
كلها في هذا المختصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق