يعتبر انتشار مجموعة "يكى بود يكى نبود" [كان يا ما كان] سنة 1921، أهم حدث في تاريخ الأدب الإيراني المعاصر. تكمن أهمية هذه المجموعة في
أن محمد على جمالزاده أدخل القصة القصيرة بمعناها المعاصر لأول مرة في نطاق الأدب
الفارسي. لكن إذا كان الكاتب في هذه المجموعة استعار بعضاً من أبنية القصة القصيرة
من الغرب، فإنه لم يتخل كلياً عن تاريخ القصة الإيرانية القديمة. ولعل سر جمالية
"يكى بود يكى نبود" يكمن في هذا التلفيق.
تشتمل مجموعة "يكى بود يكى
نبود" على ستة قصص، أجملها بدون شك قصة "درد دل ملاّ قربانعلى". "قارئ الروضة" هو الشخصية الرئيسية في القصة، سيقع يوماً
على إثر حادثة غير مرتقبة في حبال حب فتاة جميلة، لكن المرض سيلازمه. وهذا الحب لا
فائدة منه لأن الملاّ قربانعلى شيخ هرم وهو متزوج، ويعلم ألا طاقة له لوصال
معشوقته. لكن حبه للفتاة يكبر يوماً بعد يوم، حتى بات الرجل مريضاً وتخلى عن عمله
وأصبح مديوناً، ولسوء طالعه سوف لن تتوقف متاعبه عند هذا الحد. لأنه سينهار تماماً
مع وفاة معشوقته.
يبتدئ جمال زاده القصة في
"درد دل ملا قربانعلى" بنوع من الاستطراد. ففي البداية يجيب بطل القصة
على سؤال مخاطبه الافتراضي معرفاً بنفسه، ثم يحكي سيرته : "اسم المدعي ؟
الأحقر قربانعلى. ما عملي ؟ ذاكر سيد الشهدا...".
هذا الأسلوب في الاستطراد وتهييء
الأرضية هو أسلوب جديد تعلمه جمالزاده من القصة الغربية، لكن إفادته الذكية منه هي
محصلة ذوقه الفني.
تمتاز قصة "درد دل ملاّ
قربانعلى" ببنائها الرصين ولغتها الجميلة. لكن مضمونها الذي يمتاز بخصوصيات
القصة القصيرة الجديدة مسبوق في الأدب الإيراني القديم. فهيام شيخ هرم بفتاة شابة
يحيل القارئ على الفور إلى حكاية شيخ صنعان في كتاب "منطق
الطير". لكن
مهارة جمالزاده تتجلى في تحويل تراجيديا صوفي زاهد في القرون الماضية إلى تراجيديا
هزلية لـ"قارئ الروضة" في عصرنا، متوسلا في ذلك بلغة محشوة بالنقد
الساخر.
النقد الساخر (طنز) الذي استعمله جمال زاده في هذه القصة خفي ومستتر لا
نجد له مثيلاً في بقية آثاره.
استعمل هذا النقد في خلق شخصية الملاّ قربانعلى كما استخدم في لغته.
بتعبير آخر، فمن ناحية، فإن الملاّ قربانعلى بحكم منزلته الاجتماعية الخاصة لا
ينبغي أن يفكر أثناء عمله في غير ذكر مصيبة الأولياء، لكنه يفكر في فتاة فاتنة، ومن
ناحية أخرى فإن قصة حياته التي هي في الأصل محزنة، تدعو القارئ إلى الانبساط
والمرح بسبب طريقة كلامه وبيانه. ما من شك في أن الجمل المكررة التي يستخدمها الملاّ
قربانعلى أثناء حديثه عن سيرته تؤثر في خلق مثل هذه الحالة.
نقد جمالزاده على خلاف نقد صادق هدايت
ليس معقداً وعميقاً، إنما هو صريح وواضح وجميل. ومثل هذا النقد الذي ناذراً ما
يكون لاذعاً وقاسياً نعثر عليه بكل بساطة في أكثر قصص "يكى بود يكى
نبود". بيد أن هذه المجموعة تشتمل على قصتين لا وجود فيهما لطبع الكاتب
المرح، وهما "دوستى
خاله خرسه" و"ويلان الدوله". ونظرة سريعة إلى إحدى هاتين القصتين تكشف
لنا جانبا آخر من أسلوب الكتابة القصصية لدى جمالزاده.
"دوستى خاله خرسه" قصة ممتعة نلحظ فيها تقابلاً قبيحاً للخير
والشر والغنى والطمع. ففي جانب يقف حبيب الله، وهو شاب إيراني لطيف وكريم. ويقابله
في الجانب الآخر عسكري روسي طماع قذر.
تتميز لغة جمالزاده بالبساطة
والسلاسة، ويستعمل كثيراً المصطلحات والأمثال العامية. وأحياناً يكثر الكلام،
مستخدماً جملا طويلة تأخذ النفس، كما يستخدم أيضاً المترادفات بكثرة. كما أننا لا
نعدم في لغته الأوصاف الجميلة والممتعة، وقصة "دوستى خاله خرسه" خير مثال
على هذا الأمر.
أغلب شخصيات جمالزاده هي من العوام. أكثر قصص الكاتب تنبني على التضاد بين
الشخصيات وسلوكها، ونلاحظ هذا الأمر أكثر حدة في قصتي "دوستى خاله خرسه"
و"فارسى شكر
است".
تدور مضامين أغلب قصص جمالزاده في فلك محاربة الخرافات والجهل والظلم
الاجتماعي. هدف الكاتب ليس محض خلق الترف، بل دفع القارئ في الوهلة الأولى للتفكير
والتعلم. هذه الميزات تجعل من أعماله الأولى، ومن جملة ذلك "درد دل ملاّ
قربانعلى" من بين أفضل القصص القصيرة الفارسية.
لقد غاب جمالزاده عن الساحة بعد
نشره مجموعة "يكى بود يكى نبود" مدة تفوق العشرين سنة. بعد سنة 1941، سينشر أول أثر له تحت عنوان "عمو حسنعلى". لكن عدد القصص الجيدة في هذه المجموعة أو
في المجموعات الأخرى التالية قليل.
بصدور مجموعة "يكى بود يكى
نبود" سنة 1921 لم يبدأ فصل جديد في تاريخ الأدب الإيراني
فحسب، بل حصلت تغييرات كبيرة في التاريخ الاجتماعي للإيرانيين. فخلال هذه السنة
سيتولى رضا خان زمام الأمور في إيران وسيؤسس السلسلة البهلوية
أربع سنوات بعد ذلك.
بدأ عهد حكومة رضا شاه بالاختناق
السياسي. لذلك لا نستغرب عزوف العديد من الأدباء والفنانين عن النشاط الأدبي. ورغم
ذلك فإن هذه المرحلة شهدت ظهور كاتبين كبيرين ساهمت آثارهما وكتاباتهما في تطور فن
القصة القصيرة في إيران بشكل مؤثر، وهما صادق هدايت وبزرﮒ علوى.
يعتبر صادق هدايت المؤسس
الفعلي للقصة القصيرة في إيران. فهو أول من أدخل صنعة الكتابة القصصية الغربية إلى
الأدب الفارسي، وبإفادته منها خلق آثاراً تعد بعضها من روائع الأدب القصصي
المعاصر. جُمعت قصص هدايت في ثلاث مجموعات : "زنده ﺑه ﮕور" و"سه قطره خون" و"ﺳﮓ وﻟﮕرد"، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :
1.
القصص التي يرتبط موضوعها بالعهود الماضية، وأكثر
شخصياتها أبطال تاريخيون.
2.
القصص التي لها طابع نفسي وفضاء تخيلى.
3.
القصص التي تتناول حياة ومصير الشعب الذي يقبع في
طبقات سفلى من المجتمع.
عدد قصص القسمين الأول والثاني قليل، وتعتبر من القصص الرفيعة للكاتب. لكن
روائع هدايت توجد في القسم الثالث.
ففي هذه القصص نواجه أناساً
مختلفين من طبقات اجتماعية سفلى. فشخصيات من مثل داش آكل وكاكا رستم وﮔل ببو وزرين كلاه وميرزا يد الله ومشهدى شهباز هي من نفس طبقة علويه خانم وآقا موﭼول وعصمت سادات وصغرا سلطان ومنيجه خانم. صاديق هدايت بارع في تصوير حياة هذه الشخصيات ومصيرها
ومعنوياتها لدرجة ينسى فيها القارئ أحياناً أن هذه الشخصيات هي من وحي خيال المؤلف
ليس إلا.
نذكر من بين هذه الشخصيات بطل قصة
"داش
آكُل". فـداش آكل متشرد
شهم يعرفه أهل شيراز كلهم ويحبونه، لأنه يقف إلى جانبهم. لكن حياته الهادئة سوف تهتز
على إثر حادثة موت أحد أقربائه وهو حاجى صمد ووصيته
له بتحمل مسؤولية أسرته. من هنا ستتغير حياة المتشرد، وسينتظم حاله ويترك أصدقاءه
ويصرف وقته في رعاية بيت حاجى وحراسة أملاكه. لكن في هذا الخضم سيقع حدث آخر سيقلب
حياته الداخلية. فداش آكل الرجل المتوسط العمر سيسقط في شباك حب بنت حاجى الجميلة
واليافعة، لكنه لن يفصح لها عن حبه وسيبقى متحملا عبأه، وحينما ستشتد عليه وطأة
هذا الحب سيلجأ إلى معاقرة الخمرة، ويفشي همومه لنفسه ولببغائه الذي يشاركه خلواته
الليلية.
سيستمر هذا الوضع مدة خمس سنوات إلى أن يكبر أبناء حاجي ويبلغون سن الرشد.
حينها ينتهي عمل داش آكل، في ليلة يسلم الأمانات إليهم ويودعهم و يعود إلى حيه
الأول، وهناك يلتقي بمنافسه القديم كاكا رستم، هذا الأخير سيستغل الوضع ويتهكم
من داش آكل، سيتطور الوضع وينشب بينهما شجار ينتهي بوفاة داش آكل.
"داش آكل" قصة جذابة وممتعة
لا من حيث الموضوع فقط، بل من حيث الشخصيات والفضاء واللغة فهي أيضاً نسيج وحدها.
في قصة "زنى كه مردش را ﮔم
كرده" يتجه هدايت صوب ناحية أخرى من إيران، ويعرفنا بأناس آخرين، ﮔل
ببو فلاح مازندراني، لا يملك شهامة داش آكل ولا عوالمه العاطفية، بل على
العكس، هو شخص بلا إحساس ولا عاطفة يوسع زوجته ضرباً ويتخلى عنها في نهاية المطاف
ويتزوج بأخرى. لكن زرين كلاه تحب زوجها وليست مستعدة للتخلي عنه ببساطة،
لذلك اصطحبت طفلها الصغير وسافرت إلى مازندران باحثة عن زوجها. لكن سعيها بقي دون
جدوى، فـﮔل ببو لن يعود.
بالرغم من أن زرين كلاه امرأة سيئة الطالع، لكنها مع ذلك تظل واحدة من بين
أحب الشخصيات النسائية في أعمال صادق هدايت. في حين أن النساء الأخريات لا يحظين
بمثل هذا الامتياز. فهن في الغالب نساء قذرات ومسلطات ومخادعات وحاسدات. والمثال
البارز لهذه النساء هي ربابه في قصة "محلل"، يطلق ميرزا
يد الله، زوجته ربابه طلاق الثلاث بسبب قبح سجيتها وفساد أخلاقها، لكنه
يندم على ذلك ويرغب باسترجاعها، فلا حل له سوى الاستعانة بمحلل، لذا يعثر على "بقال
الدﻧﮓ ﭘفيوزى" الذي وافق على الزواج من ربابه مقابل خمسة تومانات، لكن
هذا الأخير سوف يتنصل من عهده بعد إبرام عقد الزواج، ويعلن بدون أدنى خجل " زنم
است، يك مويش را نمي
دهم هزار تومان بگيرم!" (إنها زوجتي ولن أستبدل شعرة منها
بألف تومان) لكن ربابه لن تبقى وفية لزوجها الثاني، وستنفصل عنه أيضاً.
الشخصيات النسائية عند صادق هدايت
لا علاقة لها بالحب في الغالب الأعم، بل هي حبيسة غرائزها فقط. وهذا لا يصدق فقط على
"زرين كلاه" (زنى كه مردش را ﮔم كرده)، بل يخص كل آثار هدايت. بتعبير
آخر، فإن ما يردده أبطال قصص هدايت حول الحب ،هو بلا شك كلام الكاتب نفسه : «عشق مثل يك آواز دور، يك نغمه دلگير و
افسونگر است كه آدم زشت و بد منظري مي خواند نبايد دنبال او رفت» (الحب بمثابة صوت بعيد
ونغمة جذابة وساحرة تدعو الإنسان القبيح إليها، لذا لا ينبغي السعي وراءها)، لذلك
فمن الطبيعي أن ينهزم الحب دائماً في آثار هدايت، ولعل قصص "داوود ﮔوﮊ ﭘشت" و"لاله" و"آينه
شكسته" و"ﮔرداب" و"صورتك ها" و"عروسك
ﭘشت ﭘرده" وقصص أخرى كثيرة تؤيد هذا الطرح.
أبطال صادق
هدايت ليسوا دائماً بشراً. ففي "سگ ولگرد" يصف المصير الحزين
لكلب اسكتلندي تاه في خربة بضواحي "ورامين"، فهلك من شدة بحثه
هنا وهناك. قلما نعثر على فكر متشائم ورؤية فلسفية لمفهوم الحياة ومصير الإنسان
لدى هدايت في بقية آثاره بالقدر الذي نلمسه في هذه القصة. لعل هدايت يُظهر في هذه
القصة نفس الرأي الذي عبّر عنه حافظ الشيرازي قبله بستمائة سنة :
من ملك بودم و فردوس برين جايم بود آدم آورد در اين ملك خراب آبادم
(أنا كنت ملاكاً والفردوس الأعلى كان مكاني، حتى جاء بي آدم إلى هذا الملك
الخرب).
وفي الأصل فإن الاستسلام للقدر هو أحد خصوصيات شخصيات هدايت. فإذا كان
الكلب في هذه القصة وزرين كلاه في القصة الأخرى يسعيان إلى قلب أوضاعهما،
فهما مجرد استثنائين.
علاوة على الشخصيات ففي قصص
هدايت يتميز الزمان والمكان بالتنوع أيضاً، فالكاتب لا يذهب فقط إلى البيوت المتواضعة
والغرف المظلمة والمقاهي العتيقة والفنادق الخربة، بل إنه أحياناً يطل على بيوت
أصحاب الدولة والأثرياء الجليلة، وأحياناً يقيم في دور الضيافة في باريس، وأحياناً
يسافر إلى الماضي وحيناً إلى المستقبل أيضاً. مع هدايت يمكن مشاهدة آخر ابتسامة
لبودا مع بداية قوة العرب..
لغة صادق هدايت بسيطة وخالية من
المحسنات، لكنها مليئة بالمصطلحات والأمثال السوقية والعامية. وإذا كان نثره يخلو
من تراكيب وعبارات نثر جمالزاده، فإنه مع ذلك يتوفر أحياناً على نقده الساخر (طنز).
لكن هذا النقد الساخر هو خاص بهدايت، وهو نقد خفي ولاذع وجارح.
أما الكاتب القصصي الآخر الذي
بدأ فعالياته الأدبية في العقد الأول من هذا القرن هو بزرگ علوي. يمكن تقسيم آثاره القصصية إلى ثلاث مراحل.
في المرحلة الأولى التي تمتد إلى سنة 1941 ألَّف بزرﮒ علوي قصصاً جُمعت في مجموعة "چمدان". ومن سنة 1941 إلى سنة 1954 نشر بزرك علوي آثاراً اشتهر بها في الساحة
الأدبية ككاتب ملتزم. أما آخر آثاره القصصية فترجع إلى فترة بُعده عن إيران وعيشه
في ألمانيا.
"چمدان" أول مجموعة قصصية لبزرك علوي نُشرت سنة 1934. تبدو في هذا العمل رغبة الكاتب في طرح قضايا روحية عميقة، وفي ذلك تأثر
واضح بأسلوب كتّاب من أمثال «آرتور شنيتسلر» و«اشتفان تسوايگ». وأفضل قصص هذه المجموعة "سرباز
سربى" تؤيد هذه المقولة.
في المرحلة الثانية يصل علوي إلى
درجة من الاستقرار الفني ويؤلف قصصاً بديعة سواء من حيث المحتوى أو من حيث البناء.
ففي هذه الآثار لا وجود للأشخاص (سوايى) السابقين، بل على العكس، أبطاله شجعان
وغير مستسلمين يقاومون المظالم والاختلالات الاجتماعية، وتعتبر قصة "گيله مرد" خير مثال على هذه الآثار.
أما في المرحلة الثالثة فيبدو بزرﮒ علوي
ممتعضاً من التحولات السياسية في وطنه، فيؤلف قصصاً يصف فيها بشكل مركز حياة
الفارين السياسيين ومصيرهم، فإذا كان أبطاله في عقد العشرينيات أشخاصاً مقاومين وصامدين
فإنهم اليوم أشخاص ضعفاء وممتعضون ومهمومون يقفون أمام الحوادث عاجزين صامتين ولا
يبدون أي رد فعل.
«گيله مرد» هي أفضل قصص علوي من دون شك. تعود أحداث هذه القصة
إلى زمان كان فيه رجال الدرك يسافرون إلى قرى الشمال الإيراني لأخذ ضريبة الملك،
فينهبون حياة "گيله مرد". لكن الفلاحين لن يقفوا مكتوفي الأيدي، بل سيقاومون بكل شجاعة.
يتعرف القارئ في البدء على شخصيات القصة الأساسية : الشخصية الأولى «گيله مرد» والثانية
رجلا أمن مسلحان سيقتادانه إلى "فومن" للتحقيق معه. «گيله مرد» قروي
شجاع، التجأ رفقة عدد من الفلاحين إلى الغابة، وحينما كان يزور عائلته متخفياً
قُبض عليه، أما رجل الأمن الأول يدعى محمد ولي وهو شجاع في الظاهر، لكنه في
الباطن جد جبان، يؤذي دائماً «گيله مرد» بكلامه الجارح. أما رجل الأمن الثاني فرجل بلوشي لا يفكر سوى في جمع
المال والفرار إلى مسقط رأسه. لكن «گيله مرد» بماذا يفكر ؟ هو يترصد حاملا مسدس في
يده استبدله بمبلغ مالي مع رجل الأمن البلوشي، طريق محمد ولي لينتزع منه سلاحه ويلوذ
بالفرار. لكن حين تطبيق خطته «صداي
تيري شنيده شد و گلوله اي به بازوي راست گيله مرد اصابت كرد.
هنوز برنگشته بود، گلوله ديگري به سينه او خورد و او را از بالاي ايوان سرنگون ساخت.
مأمور بلوچ كار خود را كرد"
(سُمع صوت إطلاق
الرصاص، فأصابت رصاصة الركبة اليمنى للرجل الجيلي. و ما فتئ أن يعود حتى أصيب
بطلقة أخرى في صدره أدرته قتيلاً، لقد فعل المأمور البلوشي فعلته).
«گيله مرد» قصة جد مؤثرة، فعلاوة على موضوعها وشخصياتها الجذابة، فضاؤها يتميز
بإتقان لا مثيل له. القصة منذ الوهلة الأولى تدور في فضاء يلفه القلق "باران هنگامه كرده بود. باد چنگ
مى انداخت و مى خواست زمين را از جا بكند. درختان كهن به جاى يكديگر افتاده بودند.
از جنگل صداى شيون زنى كه زجر مى كشيد مى آمد".
(كانت الأمطار قد بدأت في الهطول. كانت الرياح تلقي بمخالبها وكأنها تريد
أن تقتلع الأرض من مكانها. الأشجار القديمة تقاتل بعضها بعضاً. كان يُسمع من
الغابة صوت عويل امرأة تعاني).
يريد علوي من وراء وصف الطبيعة الغاضبة والمتقلبة أن يين الاضطرابات
الروحية لشخصيات القصة، فيوجه القارئ منذ الوهلة الأولى وبشكل غير مباشر نحو فضاء
قصته، فضاء يبقى ثابتاً حتى نهايتها.
الشخصيات النسائية عند علوي أكثر
تميّزاً، ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أنه لا وجود لكاتب آخر غير علوي وصف في
أعماله شوق النساء وذكاءهن وفتنتهم من ناحية، ورسم من ناحية أخرى صوراً لوفائهن
وعفتهن وحنانهن. ونلاحظ بالخصوص تعدد شخصيات قصص المرحلة الثانية وهذا يدل على
الاحترام الكبير الذي يكنه الكاتب لنساء وطنه.
لغة بزرﮒ علوي بسيطة
وواضحة وخالية من المحسنات، لكنها تفتقد إلى غنى لغة صادق هدايت وجاذبيتها. في
المقابل يمتاز بزرﮒ علوي بقوة مخيلته في إيجاد العناصر التي تضفي على قصصه
طابع القصص البوليسية.
تزامنت بداية المرحلة الثانية
لفعاليات علوي مع السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية والتحولات الاجتماعية
الكبيرة في إيران. ويكمن السبب الرئيسي لهذه التحولات في دخول قوات الحلفاء إلى
إيران في شهر شتنبر من سنة 1941، سنة اعتزال رضا
شاه وبداية حكومة الشاه الجديد. سيعرف هذا العهد مرحلة جديدة في الحياة الفنية
للأدباء الإيرانيين، إذ بعد سنوات من الإعتزال يعودون مرة أخرى لاستئناف فعالياتهم
الأدبية. لكن هذه الفترة هي الأخرى لم تدم طويلاً، فبعد سقوط حكومة مصدق في شهر غشت سنة 1953 سيبدأ عهد الإختناق من جديد.
من بين الكتاب والأدباء الذين
بدأوا بالتأليف بعد سنة 1941 يجب أن نذكر اسم صادق
چوبك. نُشرت أول مجموعة قصصية له تحت عنوان «خيمه شب
بازي» سنة 1945، ثم بعد أبع سنوات نُشرت مجموعته الأخرى «اَنتري
كه لوطي اش مرده بود». لقد لاقت قصصه صدى طيباً في الأوساط
النقدية وقوبلت بترحاب كبير، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أنه كاتب كبير بصم
اسمه على ساحة الأدب الإيراني المعاصر بكل جدارة. تشتمل المجموعتان المذكورتان من
ناحية على قصص تذكِّرنا بأسلوب الكتابة القصصية لهدايت، ومن ناحية أخرى تضم آثاراً
صغيرة الحجم تشبه الصورة الفورية. هذه الآثار التي تذكِّرنا بالقصص القصيرة والمعاصرة
الأمريكة، لم يكن لها سابقة في الأدب الفارسي إلى حدود ذلك الوقت. قصة "عدل"
هي إحدى أفضل تلك القصص، لها محتوى جد بسيط، وهو وصف لفرس سقط في جدول ماء فتكسرت
رجله. يرى صادق چوبك مصير أبناء وطنه في هيئة حصان مظلوم لكنه
لا يئن أبداً، يتحملون كل شيء بصبر كبير ودون أن يتفوهوا بشئ. يتكرر هذا المضمون
كذلك في قصة "قفس". القفس المملوء بالدجاج والديكة يرمز في هذه
القصة إلى المجتمع الإيراني الذي فيه «همه گرسنه شان بود. همه با هم بيگانه بودند همه جا گند بود. همه چشم به
راه بودند»
(الجميع كان جائعاً والجميع كان يحس بالغربة، وكل شيء كان سيئاً، والجميع كان
مترقباً..)
القفس نهاية الحرية. أما في قصة أخرى من المجموعة الثانية، يصف الكاتب
"اَنترى" بأنه يحلم طوال حياته بأمنية واحدة فقط، وهي التخلص من
قبضة صاحبه العنيف والقاسي. لكن حين يموت يوماً هذا القاسي، لا يدري الحيوان ماذا
يفعل. فهو أصبح حراً طليقاً لكن لا يعرف كيف يستفيد من حريته هذه.
صادق چوبك كاتب متشائم، فأبطاله ليسوا سيئي الحظ وعاجزين بسبب الظلم الاجتماعي، لكن
سبب ذلك هو مصيرهم الفاسد. وهذا بالضبط ما يميز چوبك عن هدايت الذي يعتبر أن الإنسان في ذاته موجود على يعرف القبح. إضافة إلى
هذا فشخصيات چوبك هي بدون استثناء أفراد غير متوازنين وعصاة
وأسرى لغرائزهم.
أبطال چوبك في الغالب أشخاص تعساء ومحرومون، رغم أن من
بينهم أحياناً موظفو الدولة والفنانون والمثقفون، لكن الأكثرية لصوص ومهربون وسماسرة..فهؤلاء
أشخاص عنيفون وعديمو الاحساس، ويكذبون على بعضهم البعض ويفكرون في محض منفعتهم
الخاصة. عالم چوبك مظلم وقبيح وعامر بالخبث.
چوبك له ارتباط كبير بالحيوانات، لا أحد من الكتاب الإيرانيين وحتى الشرقيين
استعمل الحيوات والطيور في أعماله إلى هذا الحد. قصص «قفس»،و «انتري كه لوطيش مرده بود»،
و«عدل»، و«همراه» و«مردي در قفس» أمثلة على ذلك.
لغة چوبك في القصص التي تأثر فيها بهدايت، مفعمة بالمصطلحات والعبارات والأمثال
العامية الجارية على ألسن طبقات اجتماعية وضيعة. أما لغته في الآثار الأخرى التي
تأثر فيها بالكتاب الأمريكيين بسيطة وموجزة. يظهر چوبك مهارة كبيرة في تصوير الفضاء والشخصيات خاصة في قصصه الأولى. أفضل مثال
نذكره في هذا المقام قصة «چرا دريا طوفاني شده بود؟» التي لا تعتبر رائعة چوبك الوحيدة فحسب بل واحدة من أحسن القصص الفارسية. تصوير الفضاءات ووصف
الشخصيات في هذا العمل يتميز بالحياة وكأن القارئ وهو يطالع ذلك يتفرج على فيلم
سينمائي.
بالرغم من أن قوة إبداع صادق چوبك في قصصه الأخيرة عرفت ضعفاً وافتقدت إلى الإنسجام،
لكن يبقى – بسبب مجموعتيه الأولتين – قصّاصاً كبيراً في تاريخ الأدب القصصي
الإيراني.
جلال آل أحمد من بين الكتَّاب
الذين نشروا أول آثارهم في العقد الثاني من هذا القرن. أول مجموعة قصصية لـجلال
آل أحمد "ديد و بازديد" (1945) وبشَّرت بمقدم كاتب كان في أول عهده متأثراً
بهدايت، لكنه سرعان ما شق طريقه وحصل على استقلاله الفني.
يمكن
تقسيم الأعمال القصصية لـجلال آل أحمد إلى قسمين : ففي قصصه التي ألفها قبل سنة 1953 يوجه سهام نقده نحو
الوضع الاجتماعي الإيراني والتعصت المذهبي الذي طغى على عدد من مواطنيه. لكن بعد
سنة 1953 ألف آل أحمد آثاراً يبدو أن مواضيعها الاجتماعية لم تختلف كثيراً عن آثاره
السابقة، لكن يلاحظ فيها فرقاً مهماً يتمثّل في التوجه إلى المذهب والتقاليد
القديمة. وقد نبع توجه آل أحمد هذا الذي كان يشكل أساس فكره الاجتماعي وفعالياته
الأدبية وخاصة بعد عقد الأربعينيات، من اعتقاده الراسخ بأن تأثر الكتّاب بدون قيد
أو شرط بأفكار وأساليب الحياة الغربية هو السبب وراء اندثار الثقافة القومية والمحلية
الإيرانية.
نشر جلال
آل أحمد بين سنة 1945 و1953 إضافة إلى مجموعة "ديد و بازديد" ثلاث
مجموعات قصصية أخرى، وهي على التوالي : "از رنجى كه مى بريم" و"سه
تار" و"زن زيادى". وينصبُّ موضوع أكثر هذه القصص على وصف حياة البسطاء
من الناس والمحرومين الذين وقعوا ضحايا للظروف الاجتماعية غير المواتية، لكن هؤلاء
يتحلون بصفة أخرى وهي استسلامهم لهذه الظروف وإيمانهم بأن الهزيمة هي مصيرهم
المحتوم. نلمس في قصص هذه الفترة جمود الفكر المذهبي وتفشي الفقر والجهل. وخير
مثال على ذلك يبرز في قصتي "سه تار" و«بچه مردم».
لا تعود شهرة جلال آل أحمد إلى قصصه الأولى، فقلَّما نعثر بينها على نماذج
جيدة، إنما اشتهر بروايته القصيرة "مدير مدرسه" (1958) وبآثار أخرى جُمعت في مجموعة «پنج داستان» سنة 1350ش. فإذا كان نثر آل أحمد في قصصه
الأولى يشبه إلى حد كبير نثر صحفي محترف و ذلك بسبب عدم أخذه بمبادئ الكتابة، فإنه
يختار الآن لبيان أفكاره لغةً تختلف كثيراً عن اللغة السابقة. هذا النثر بيس
هادئاً و ثقيلاً و رتيباً، لكنه نثر «تلگرافي، حساس، دقيق، خشن، صريح و صميمي است»
(تلغرافي و حساس و دقيق و خشن و صريح و حميمي) كما صرحت بذلك سيمين دانشور. هو نثرٌ
منفعل و غير ملتزم و مفعم بالإثارة و إلى حد ما مقترن بالطنز. لذلك يمكننا الجزم
بأن جزء كبيراً من تأثير آل أحمد في الأدب القصصي الإيراني المعاصر مرهون بلغته
الخاصة، اللغة التي تشبه كثيراً المحادثة أو الحوار. لكن خطأ آل أحمد يكمن في
استخدامه لهذه اللغة في كل المواضع، و لا يفرق في هذا المجال بين المقالة و الرحلة
و القصة. و مع ذلك فإنه أبدع قصصاً قيمة. و أحدها "جشن فرخنده".
ألف ابراهيم گلستان أول قصصه
خلال سنوات 1326 و 1327ش، و نشرها سنة بعد ذلك في مجموعة سمّاها "آذر، ماه
آخر پاييز". موضوع أكثر هذه القصص الإستياء من الفعاليات السياسية. يشكل
المثقفون غاليبة الشخصيات الأصلية في هذه الآثار، و هو مضطرون للتخلي عن آمالهم
لتغيير النظام الموجود و خلق نظام جديد. لعل الكلام الذي ذكره بطل قصة "ميان
ديروز و امروز" يبيِّن العوالم الباطنية لأكثر شخصيات گلستان في آثاره الأولى
: "...و اكنون دريغى در جانش دميد كه كاش از اوّل پايش به ميان كشيده نشده
بود" (...و الآن نُفخ أسف في روحه أن ليته لم يتورط منذ البداية).
تسمى المجموعة الثانية لـإبراهيم گلستان "شكار سايه" (1334ش) و
تضم قصصاً ألفها القاص بين سنوات 1328 و 1331ش. مضمون أكثر هذه الأعمال هوكذلك وصف
الإضظرابات الداخلية للأبطال، في هذه الفترة التي تكثر المضامين التي تصور
التحولات الاجتماعية الكبيرة في آثار أغلب الكتّاب، نجد قصص گلستان تعالج الشخصيات
المهزوزة و المترددة.
هناك أثر جد متميز بين آثار الكاتب الأولى و هو "در خم راه".
رغم أن مضمونه لا يتفاوت عن مضمون الآثار الأخرى في هذه المرحلة، لكن فضاءه فضاءٌ
مغاير. بالإضافة إلى ذلك يتمتع ببناء محكم و لغة حيوية متحركة و طريقة بيان
النوسان الداخلي للأبطال يظفي عليها شخصية واقعية و هذا الأمر قلّما نشهده في آثار
گلستان الأخرى.
يطغى كهزاد الذي عانى كثيراً من
جور أربابه، و يلجأ إلى الجبل، و والده لا يوافقه في هذا العمل، هذا الأب الذي يرى
تصرف ابنه دون فائدة و غير متعقل، يدعوه دوماً إلى الرجوع. لكن كهزاد لا يرجع عن
قراره و يبقى و لا يعود. لم يعد مستعداً لتحمل التحقير، لكن العجيب في الأمر أنه
حين يقع أبوه في قبضة المأمورين و يخرج هو من مخبئه تهتز روحه لكن دون أن يُقدم
على شيء أو يقوم برد فعل، يتحمل كهزاد هذه المرة التحقير و يبقى في مكانه حتى
يُقتل أبوه أمام أعينه على يد المأمورين.
[يتبع]