اللغة الفارسية الدرّية (الأفغانية)
التحدّيات والآفاق
[مترجم]
[مترجم]
ذ/ أحمد موسى
لا تخفى على أحد مكانة اللغة الفارسية وتاريخها في
أفغانستان. فقد كانت هذه البلاد ومنذ القِدم، مركزاً من المراكز الرئيسة لنشأة
اللغة الفارسية وانتشارها. وانحدر من هذه المنطقة الجغرافية العديد من الأساطين والعلماء
الكبار في اللغة الفارسية وآدابها. واليوم، وبالرغم من كل الصعوبات التي تعاني
منها، فإن أفغانستان تعتبر واحدة من الدول الثلاث في العالم التي تحظى فيها اللغة
الفارسية بالرسمية والانتشار الواسع.
يمكن للغة الفارسية الأفغانية بما اشتملت عليه من مفردات
فارسية قديمة ومن نظام صوتي أصيل أن تكون مفيدة وجذابة بالنسبة لباقي الناطقين
بالفارسية في العالم، كما يمكن في بعض الحالات أن تكون ناجعة في حل إشكالات النصوص
القديمة. بيد أن أكثر قيم هذه اللغة أهمية يكمن في أنها تربط جسراً فكرياً
وثقافياً قوياً بين شعبي أفغانستان وإيران وتشكّل قاسماً مشتركاً بين ثقافة
الشعبين.
كما أن الاهتمام بفارسية أفغانستان وإحياء المشتركات
اللغوية لشعوب هذه المنطقة من شأنه أيضاً أن يساعد في حفظ وتطوير اللغة في كلا
البلدين، كما بإمكانه أيضاً أن يبقي على الأقل على منطقة نفوذ ورواج اللغة الفارسية
على وضعها الراهن بعدما تعرضت، منذ وقت طويل، للتمزق والتشتت، إن لم يشكّل خطوة
إلى الأمام نحو إحياء ماضي هذه اللغة التليد.
من ناحية أخرى، وبفضل اللغة والخط الفارسيين توجد اليوم
إمكانيات وقدرات بالفطرة، كبيرة وعديدة، لربط التواصل الثقافي بين هذين البلدين
العريقين، ذلك أن أفغانستان هي البلد الوحيد في العالم الذي يستقبل الانتاجات
الثقافية الإيرانية دونما حاجة إلى ترجمتها أو حتى تغيير الخط لفهمها والإفادة
منها.
لذلك، على مجمع اللغة الفارسية في إيران أن يضطلع بمهمة
ثقيلة وجسيمة بغرض الحفاظ على أصالة هذه اللغة، ولن ينجح في ذلك من دون الاهتمام
بأفغانستان وقضايا اللغة الفارسية في هذا البلد. وهي تشكل ضرورة ملحة لما تواجهه
اللغة الفارسية من تحديات في البلدين معا.
التهديدات
والعوائق :
بالرغم من تاريخ ومكانة اللغة الفارسية في أفغانستان،
إلا أنه ينبغي القبول بأن هذه اللغة تواجه في مهدها التاريخي الكثير من التحديات
والعوائق والتهديدات أيضاً. يمكن تحديد أهم هذه الإشكالات في النقاط التالية :
1/ دخول الكثير من المفردات الأجنبية إلى هذه اللغة خلال
القرون الأخيرة، وبخاصة في العقد الأخير (الذي انفتحت فيه هذه الدولة بشكل مفاجئ
وواسع على العالم الخارجي). وتكثر هذه المفردات في مجالات العلم والاتصالات
الحديثة. ولا توجد في أفغانستان إرادة وطنية أو حكومية لمواجهة هذا المسار.
وما يجعل الأمر يكتسي الخطورة هو ضعف المستوى الثقافي
والعلمي لدى عموم الشعب الأفغاني، وهو ما يؤدي إلى اقتناعهم بدعوى أن لغة
الأفغانيين هي "الدريّة" وليست "الفارسية"، مما يدفع بالكثير
من الأفغان إلى التمسك بالمفردات الأجنبية على أساس أنها كلمات دريّة، ويبعدهم عن
استعمال الكلمات الفارسية المعادلة للكلمات الأجنبية. ويُلاحظ أن حتى بعض المثقفين
والنخب في أفغانستان لا تتورع عن استعمال كلمات مثل "بايسكل"
و"پروگرام" و"فاكولته"
وتتمسك بها مقتنعة بأنها كلمات دريّة، والكلمات المعادلة لها "دوچرخه"
[الدراجة] و"برنامه" [البرنامج] و"دانشكده"
[الكلية] هي كلمات فارسية غير قابلة للاستعمال في هذه الدولة.
2/ النفوذ التدريجي للغة الإنجليزية في النظام الإداري
لأفغانستان، وبخاصة في المؤسسات غير الحكومية التي أقامتها الدول الأجنبية أو التي
تدعمها. ففي هذه المؤسسات، تُستعمل اللغة الانجليزية، اليوم، في أكثر المكاتبات
والمراسلات، ولم يقف الوضع عند هذا الحد، بل انتشرت هذه الطريقة، بشكل أو بآخر، في
الإدارات الحكومية والمؤسسات التعليمية الأفغانية بسبب ارتباط هذه الأخيرة بالمؤسسات
الأجنبية. وأكثر الأشخاص الذين يديرون الأعمال في أفغانستان هم العائدون من
باكستان أو الغرب، وهم في الغالب يتقنون اللغة الإنجليزية أكثر من الفارسية.
3/ انتشار كثرة الأخطاء على المستوى الصواتي للغة (ظاهرة
اللحن في الفارسية) إلى حد تغيّر نطق الكثير من المفردات عما كان عليه في الأصل
الفارسي الفصيح. ومثال ذلك نشير إلى شيوع استعمال "زياف"
عوض "زياد" [كثير]، و"كاريگر"
عوض "كارگر" [العامل]، و"آهين"
عوض "آهن" [الحديد]. والكثير من الكلمات
الأخرى من هذا القبيل، مما جعل من اللهجة الأفغانية غير مفهومة بالنسبة للإيرانيين
أصحاب اللسان الفارسي.
4/ الضعف الواضح للغة الفارسية الأفغانية على مستوى
القواعد والنحو، خاصة تلك المستعملة في وسائل الإعلام. والسبب الرئيس وراء هذا
المشكل يكمن، في جانب، في ضعف المستوى الثقافي والعلمي العام وعدم نجاعة النظام
التعليمي في هذا البلد. ومن جانب آخر نفوذ الأفغان المتعلمين في الخارج والمتقنين
للغتين الأردية والإنجليزية والغريبين عن الفارسية، في وسائل الإعلام.
5/ الاختفاء التدريجي للهجات المحلية الأصيلة والغنية
وغلبة لهجة العاصمة، بسبب انتشار وسائل الإعلام. وما يعقّد الأمر أكثر هو غياب أية
مؤسسة تُعنى بالحفاظ على اللهجات المحلية وعلى معجمها وقيمها. ويجب إضافة شيء آخر
وهو إحساس البعض، وخاصة في المدن الصغيرة والأرياف بوضاعة لهجته المحلية وحقارتها،
مما يؤدي بهم إلى تعويض هذا الإحساس عن طريق اللحاق بركب التيار العام للهجة
العاصمة.
العوامل
والأسباب :
يمكن حصر العوامل والأسباب المسؤولة عن الاختلالات
المشار إليها في اللغة الفارسية الأفغانية في النقاط التالية :
1/ ضعف المستوى العلمي والثقافي العام بسبب عقود من
الحروب والاضطرابات الاجتماعية والسياسية. وخلال هذه المدة هاجرت الكثير من النخب
الأفغانية وطلبت اللجوء إلى الدول الأجنبية. وتعطّلت عن العمل الكثير من المؤسسات
الحكومية وغير الحكومية، وانمحت، تقريباً، الطبقة المتوسطة في المجتمع التي كان
بمقدورها دعم العلم والثقافة.
بيد أنه في السنوات الأخيرة، عرف النظام التعليمي
الأفغاني تحسناً ملحوظاً بسبب دعم الأجانب للجامعات الحكومية وأيضاً بسبب تأسيس
مؤسسات جامعية خاصة. لكن المشكل يكمن في أن الدول الأخرى لا تبدي اهتماماً يُذكر
بفتح أقسام اللغة الفارسية وآدابها، كما أن هذا التخصص لا يلقى إقبالاً من طرف
الطلاب في الجامعات الخصوصية.
2/ الانفتاح المفاجئ والكلي لأفغانستان على العالم
الخارجي، وبالخصوص على الغرب، إلى درجة أن أغلب الأنشطة العلمية والثقافية في
أفغانستان، اليوم، تُنظم أو تُدعم بإشراف مباشر من المؤسسات الأجنبية غير
الحكومية. ويتحول موظفو هذه المؤسسات المحليين، الذين يُشترط لتوظيفهم الإتقان
الكامل اللغة الإنجليزية، إلى مروّجين وناشرين للغة الإنجليزية، بصورة آلية وغير
مباشرة، في أوساط عائلاتهم ومحيطهم، وفي المجتمع بأكمله.
3/ نفوذ سيادة اللغة البشتونية (هي لغة أفغانستان
الرسمية حالياً) وإهمالها الممنهج والمؤسساتي للغة الفارسية (اللغة الأصل والأم)،
والذي يبدو في بعض الأحيان أن له خلفية عدائية. انصبت المساعي خلال سبعين سنة
الماضية على تكريس موقع اللغة البشتونية في أفغانستان بوصفها لغة وطنية. وقطع صلة
اللغة الفارسية الأفغانية بالخارج (إيران) بالتأكيد على تسمية "اللغة
الدّرية". ويُشار في المناهج والكتب المدرسية في أفغانستان بشكل واضح إلى
استقلالية "الفارسية" عن "الدّرية"، ويتم تقديم هذه الأخيرة
على أن أصولها التاريخية متفاوتة عن الفارسية الأم.
4/ انقطاع التواصل بين الأفغان المتحدثين بالفارسية في
الداخل والأفغان في الخارج خلال العقود الأخيرة، وبقاؤهم بعيداً عن تحولات اللغة
الفارسية في الدول المجاورة وفي معزل عنها. وما كرّس هذه القطيعة هو التأكيد على تسمية
اللغة الفارسية الرائجة في أفغانستان بـ"الدّرية"، واعتبارها لغة أجنبية
بالنسبة للفارسية.
5/ قلة اهتمام القائمين على اللغة الفارسية في إيران
باللغة الفارسية الأفغانية، سواء على المستوى الإعلامي، أو على مستوى الفعاليات
المشتركة التي من شأنها الحيلولة دون حصول القطيعة التي أشرنا إليها في النقطة
السابقة. ولا بد من الاعتراف بأن الناطقين بالفارسية في أفغانستان تُركوا، خلال
القرن الأخير، بمفردهم يواجهون التحديات للحفاظ على لغتهم. فلم يقف بجانبهم لا
السلطات الأفغانية ولا المؤسسات الثقافية والأدبية الإيرانية.
الأولويات :
بالنظر إلى ما تم ذكره، يبدو أن الأولويات والأهداف التي
ينبغي أن تضعها المؤسسات العلمية والأدبية الإيرانية، وعلى وجه التحديد مجمع اللغة
الفارسية، في أفق الحفاظ على اللغة الفارسية الأفغانية وتقريب الهوة بينها وبين
شقيقتها في إيران، تتمثل فيما يلي :
1/ الزيادة في وتيرة تواصل أهل الأدب وأصحاب القلم في
البلدين عن طريق تبادل الأسفار والزيارات، والملتقيات والتواصل الإعلامي. يجب
الإذعان بأن السبب الرئيس في عدم ربط التواصل بين أصحاب اللغة الواحدة في إيران
وأفغانستان يكمن في انعدام المعرفة والتعارف. فالإيرانيون غالباً ما يعتبرون أن
اللغة الفارسية هي لغتهم الخاصة ويجهلون ميزان رواجها ونسبة انتشارها خارج حدود
بلدهم، ولذلك لا يحسون بضرورة هذا التواصل مع جيرانهم. بالمقابل فالكثير من
الأفغان وبسبب هذه النظرة الموجودة في إيران يشككون في كل شيء، حتى في إجراء تواصل
سليم، وينظرون إلى ذلك نظرة يأس. والتواصل كفيل بردم الهوة ورفع اليأس وتقريب
الطرفين.
2/ اختيار أسلوب معقول ومدروس لتكريم مفاخر الأدب
الفارسي ليكون جسر وفاق وصداقة بين الأمتين الأفغانية والإيرانية. لأنه لوحظ في
القرن الأخير أن أسلوب الاحتفال بالمفاخر الأدبية في البلدين يطبعه الجدال والتحدي
والخصام وسوء الفهم. وأدت السياسات الثقافية الخاطئة في البلدين إلى النظر إلى
بعضهم البعض بعين الخصم وليس بعين الصديق.
3/ تشجيع وسائل الإعلام الإيرانية على الاهتمام أكثر
بأفغانستان، وتقديم صورة مغايرة لما تقدمه عن أفغانستان اليوم. فالصورة التي
تعكسها وسائل الإعلام، بأنواعها المختلفة، في إيران، عن أفغانستان ليست صورة بلد
شقيق وجار يتقاسم مع إيران نفس اللغة ونفس الثقافة والتاريخ و... فلا بد من إعادة
النظر في السياسة الإعلامية الإيرانية تجاه أفغانستان حتى تتهيأ الأرضية المناسبة
لرفع سوء التفاهم وتتعمق الثقة ويحصل المبتغى.
4/ ضرورة التعاون والتنسيق بين مجامع اللغة الفارسية في
البلدين، والاعتراف الرسمي بإنتاجات ومصوبات مجمع اللغة الفارسية في أفغانستان.
هذا إذا لم يستطع البلدان تأسيس مجمع واحد وموحد للغة الفارسية تنصهر فيه جميع
الجهود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق