ملاحظات حول الترجمة من الفارسية إلى العربية
لا
شك أن الترجمة غدت ثورة عظيمة الأثر على مختلف المستويات والأصعدة : الثقافية،
والأدبية، والعلمية، وغيرها، وباتت تشكّل جسراً للتواصل بين الثقافات المختلفة
والحضارات المتعددة؛ وتلعب دوراً مهما في تلاقح الأفكار وتثاقفها، والتفاعل والحوار بين الثقافات واللغات الحية،
والشعوب والأمم في شتى مناطق المعمورة. فالترجمة إبداع حيوي، وتزاوج فكري، وتبادل
ثقافي، وعطاء أدبي، ومشاركة علمية، وظاهرة تدعونا إلى التفاعل الايجابي مع ثقافات
الشعوب الأخرى، ومحاولةِ فهم ما لدى الآخرين من أفكار ومعارف؛ وهي التي حفظت
التراث العالمي من الضياع والاندثار والآفات الأخرى.
نحن
مطالبون اليوم، في هذا العالم المليء بالنزاعات والفتن والقلاقل، بالانفتاح على
الحضارات والثقافات واللغات الأخرى؛ لأنها تشكّل نوافذ للاستفادة من الفكر
العالمي، وفي النهاية فإنَّ الهدف الذي تسعى إليه الترجمة هو المساهمة في الفكر
العالمي، وإثرائه بالأفكار البناءة والمفيدة، وهنا يتجلى دورها وأثرها في التفاعل
الثقافي، وما ينتجه العقل البشري.
إن الأدب الفارسي بغناه وقيمته والأدب العربي بثراه ورونقه
وعالميته يعانيان، رغم ما بذل من جهد، من شح التواصل وانقطاع الأواصر، وقصورِ فرص التلاقح
والتفاعل بينهما، وها هنا تكمن مهمة الترجمة الكبيرة والمسؤولية الجسيمة التي اضطلعت
بها في ماضي هاتين اللغتين العريقتين والشقيقتين وتضطلع بها في حاضرهما.
إن ما يدعو للتأسف في هذا السياق هو غياب التعارف العميق
والمتين بين الأدبين العربي والفارسي، وخاصة في الحقبة المعاصرة، مما يرخي بظلاله
على حركة الترجمة بين اللغتين العربية والفارسية التي تعرف تعثراً بالرغم من
الجهود المبذولة. وأسباب ذلك في تقديري يمكن حصرها فيما يلي :
أسباب تعثر الترجمة بين اللغتين
العربية والفارسية :
- حالة
الانفصال بين العالمين العربي والإيراني : ليست
الحدود الجغرافية ولا الخلافات السياسية وحدها هي التي أدت إليها، بل ثمة أيضاً
حدود نفسية وثقافية ومعرفية فعلت فعلها في هذا السياق، ما منع حصول أي تقارب حقيقي
على المستوى الثقافي، فظل الجهل قائماً لدى كل طرف بما لدى الآخر، وما من شيء مثل
الترجمة المستقلة تماماً، المنزهة عن الأغراض والأهداف القَبْلية يعمل على جَسر
الهوة وإيجاد وسيلة اتصال معرفية وتبادلية بين الثقافتين تمحو ما تراكم من سوء
الفهم والشكوك والاتهامات في العصر الحديث، أو على الأقل تجعل الاختلاف واعياً
ناجماً عن معرفة بالآخر لا عن جهل به.
- عدم انخراط مثقفي الضفتين في نسج
وشائج أدبية وثقافية بينهما : إذا كانت الظروف السياسية
مسؤولة بشكل أو بآخر عن هذا الانفصال أو البعد بين العالم العربي وإيران فإن
المؤسسة الثقافية الرسمية تتحمل غير قليل من هذه المسؤولية، فالمثقف العربي لا
يكاد يعرف شيئاً عن ثقافة إيران التي تجاوره (ينطبق هذا أيضاً على المثقف الإيراني)،
ولهذا تظل العلاقة بينهما علاقة جوار لا حوار، في حين لو توفرت مثل هذه المعرفة
الدقيقة فلربما أسهمت في أن تكون صورة الآخر أقلَّ تشوشاً وأكثر عمقاً، وهنا تكمن
أهمية الثقافة والأدب والفن بوصفها منصات مثلى للحوار الفاعل، القادر على فهم
الآخر، وصياغة صورة أكثر واقعية وصدقية عنه.
- عدم معرفة التركيبة القومية في
إيران : ثقافياً، يجري، غالباً، اختزال الأدب الإيراني في الأدب الفارسي،
ولعل السبب هو عدم معرفة التركيبة القومية في إيران التي تضم قوميات أخرى كالأكراد
والأتراك والتركمان والبلوش والعرب الأحوازيين. ولكل منهم أدبه أيضاً، لكن الأدب
الفارسي الذي يشكل الفرع المهم والرئيس من الأدب الإيراني هو ما نعرفه بسبب تاريخه
الخاص، ولأن اللغة الفارسية هي اللغة الرسمية، وبها صيغت التحولات الأدبية
والفكرية، تلك التحولات التي شملت الشعر أولاً، ثم انسحبت على النثر وتركت عليهما
بصمات شكلت فيما بعد السمات الكبرى للأدب الإيراني.
- الصورة السلبية للشخصية
العربية في الأدب الإيراني : تقودنا قراءة الإبداع
القصصي والروائي الإيراني، في بداياته، إلى وجود صورة سلبية للعربي تحضر في معظم
أعمال الفترة المبكرة التي شهدت تنامي الشعور القومي لدى الإيرانيين، واعتُبر فيها
العربي، وقتها، رديفاً للآخر الغربي (العدو)، والغريب أنها موجودة في أعمال كثيرة
ولدى كتّاب لا يتوقع المرء منهم نظرة شوفينية إلى الآخر، أيِّ آخر، فما بالك
بالآخر الجار أولاً والمسلم ثانياً. ففي أعمال كتّاب كبار مثل صادق هدايت ومحمد علي جمال زاده وصادق چوبك وشاه رخ مسكوب وميرزا آقاخان كرماني وغيرهم، لا تختلف صورة العربي كثيراً عن تلك الصورة النمطية التي
تحضر في كتابات الرحالة والمستشرقين الغربيين، وتعكس جهلاً فاضحاً بالشخصية
العربية وسماتها وعاداتها، وأعتقد أن على المثقف الإيراني والعربي أيضاً واجب
تصحيح هذه الصورة، وإعادة قراءة وصياغة هذه العلاقة الملتبسة بين "العرب"
و "الفرس" التي تؤدي غالباً إلى استنتاجات غير دقيقة بالمرة. بل وإعادة
النظر في مفهوم «الذات» وهي تتجلى في مرآة الآخر. فقد شهدت الثقافة الإسلامية فترة
ذهبية برز فيها نوع من التثاقف أساسه الاعتراف بالآخر والقبول به، وأسَّس لعلاقة
وطيدة بين الأدب العربي والأدب الفارسي، كان من ثمارها عشرات الأسماء المهمة في
حقل الشعر على سبيل المثال، وعرفنا فيها الخيام والشيرازي والرومي وغيرهم.
[يتبع]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق