ظهور الأدب الفارسي وازدهاره في العهد الاسلامي

   مرت اللغة الفارسية في العصر الإسلامي بمراحل مختلفة طرأت عليها خلالها تحولات ملفتة للنظر من حيث القالب والصياغة والمضمون، وأصبحت لغة الشعر والأدب الإيراني في العصر الإسلامي، فُكتبت آثار أدبية بهذه اللغة تشمل الشعر والنثر.
عهد الطاهريين والصفاريين :
القرن الأول حتى القرن الثالث الهجري: تبقت أولى نماذج الأدب الفارسي من القرنين 3 و4 ﻫ من العصر الإسلامي. والمعلومات الوحيدة التي نمتلكها عن شعراء القرون الأولى تتمثل في فهرس بأسمائهم.
واستناداً إلى رواية مؤلف تاريخ سيستان، فقد مدح محمد بن وصيف السجزي لأول مرة يعقوب ليث الصفار بالشعر الفارسي؛ ومدحه من بعده شعراء آخرون مثل بسّام الكورد ومحمد بن مخلد السجزي باللغة الفارسية. كما اعتبر العوفي، حنظلة البادغيسي أول شعراء العهد الطاهري، وعدّ فيروز المشرقي وأبو سليك الجرجاني شعراء عهد عمرو ليث الصفار.
ولم تتبق الأشعار المتناثرة والقليلة لشعراء هذا العهد إلا في كتب التذاكر. ولا تتمتع هذه الأبيات بالميزة الموسيقية، وألفاظها غير متناسقة وأفكارها بسيطة وعارية من الزينة. لم تصلنا من شعر هذا العهد نماذج كثيرة. وأما الأشعار التي جمعها لازار، فلا تتجاوز 50 بيتاً على أن تاريخ حياة ناظميها ليس مؤكداً كما صرح بذلك شفيعي كدكني، كما إن هناك شكوكاً في نسبة هذه الأشعار إليهم. ويرى زرين كوب أن «سرود أهل بخارا» [نشيد أهل بخارى] هو أول أثر منظوم فارسي وصلنا من العصر الإسلامي، حيث تبقى منذ سنة 56 ﻫ. ومن حيث خلق الصور، تعد التشبيهات المحسوسة والمادية أهم الأشكال في هذا العهد، ونحن نشهد بوضوح تأثير صور الشعر العربي لدى بعض الشعراء مثل فيروز المشرقي. وبغض النظر عن شعر فيروز المشرقي وحنظلة البادغيسي، تخلو آثار شعراء هذا العصر الآخرين وخاصة آثار محمد بن وصيف السجزي من الصور.
عهد السامانيين و الغزنويين :
يعتبر هذا العهد الذي يشمل فترة تمتد من النصف الثاني من القرن 3 ﻫ وحتى النصف الأول من القرن 5 ﻫ، عهد الاهتمام بالثقافة القومية، وشيوع الشعر والنـثر الفارسيين وترسيخهما.
الشعر : بلغ الشعر الفارسي في هذا العهد مرحلة النضوج والانسجام، بفضـل شعراء مثل الرودكي (توفي 329 ﻫ) والشـهيد البلخـي (توفي 325 ﻫ).
وقد أدى استمرار جهود شعراء هذا العصر إلى ظهور شعراء كبار مثل الفردوسي والكسائي ومنوجهري وفرخي وعنصري، حيث تتمتع آثارهم بتنوع لافت من حيث الأسلوب والمضمون.
ويعتبر هذا العهد من الشعر الفارسي الذي شاعت فيه أنواع القوالب الشعرية، أكثر عهود الشعر الفارسي طبيعيةً بفضل تمتع هذا الشعر بسهولة عناصر الخيال؛ كما يعد أغنى وأخصب عهود الأدب الفارسي من حيث الصور الحسية والتجارب الشعرية المباشرة وتنوع المجالات التصويرية.
ومن خصائص الأدب في هذا العهد كثرة الشعراء. واستناداً إلى ما ذكره ذبيح الله صفا، فقد كان نطاق الشعر الفارسي الدري مقتصراً في هذا العهد على مناطق إيران الشرقية.
ويختص القسم الأكبر من الأشعار المتبقية من هذا العهد بالثناء على الممدوحين، وقد كان الشعراء يمدحون الوزراء ورجال الحكم وأصدقاءهم والعلماء وأولياء الدين والنبي(ص) والخلفاء، بالإضافة إلى مدح الملوك، ولكنهم لا يبالغون في الثناء على الممدوح.
كان نظم الرثاء شائعاً أيضاً في هذا العصر إلى جانب المدح. والموضوع الملفت للنظر أن المراثي نظمت في قوالب شعرية مختلفة، اعتباراً من الدوبيت وحتى القصائد المفصلة.
ومن خصائص أدب هذا العهد، طرح الأفكار الحكمية والأخلاقية في الشعر. ويدل غنى الشعر الفارسي بالمضامين الحكمية والأخلاقية في أولى مراحل تكامل الشعر الفارسي، على وجود مصادر من هذا القبيل في شعر ما قبل الإسلام، ذلك لأننا نادراً ما نصادف مثل هذه الأغراض في الشعر العربي.
وقد ظهرت الفكاهة والهجاء أيضاً بعد عهد الصفاريين في الشعر الفارسي ولأننا لا نجد أثراً للهجاء في الأدب الفارسي في عصر ما قبل الإسلام، فإن بالإمكان الاستنتاج أن الهجاء أصبح متداولاً في الشعر الفارسي على إثر تقليد الشعراء العرب. 
ويعتبر الغزل نموذج الشعر الغنائي في هذا العهد، حيث كان ينظم أحياناً في مطلع القصيدة، وأحياناً بشكل مستقل ويتضمن أحاسيس لطيفة وألفاظاً سهلة وسلسة، ومقرون في غالبيته جمال المعشوق بأوصاف الطبيعة.
ويعد هذا العهد بداية نظم الملاحم في إيران. وقد كان من أهم دوافع اتجاه الإيرانيين إلى نظم الملاحم في عهد السامانيين، تأثرهم بمساعي الشعوبيين وثورة الإيرانيين القومية في بداية هذا العهد. ويعتبر مسعودي المروزي أول من انبرى إلى نظم ملاحم الإيرانيين الوطنية، حيث لم تذكر منظومته الشاهنامه، سوى مرتين في كتاب البدء والتاريخ، ويبدو أنها كانت قد نظمت قبل 355ﻫ.
والأثر المهم الآخر هو گشتاسپ نامه في ألف بيت الذي نظمه أبو منصور محمد بن أحمد دقيقي البلخي في النصف الثاني من القرن 4 ﻫ ، وقد أدرجه الفردوسي في الشاهنامة عند حديثه عن حكم گشتاسب.
وقد نظمت في هذا العهد أهم وأكبر ملحمة تاريخية إيرانية، ألا وهي الشاهنامة وقد كانت في متناول يد الفردوسي بالإضافة إلى أثر دقيقي وشاهنامة أبو منصوري، قصص مستقلة أخرى كانت معروفة آنذاك. يجدر ذكره أن جهوداً كانت قد بذلت قبل الفردوسي بهدف تدوين ملاحم الإيرانيين القومية من بينها شاهنامة أبو منصوري التي لم يتبق منها سوى مقدمتها.
وقد بدأ في هذا العهد نظم نوع من شعر الزهد الديني والحكمي بظهور أشخاص مثل الكسائي المروزي (تـ341 ﻫ) وناصر خسرو القبادياني (394-481 ﻫ)، حيث ذُم فيه المدح والغزل بشكل واضح.
ومنذ هذا العهد، وصَلَنَا كلام منظوم يتضمن الأفكار الصوفية. وقد وردت الإشارة في تمهيدات عين القضات في آثار العهد الغزنوي إلى أسماء أو عدد من الأبيات لأشخاص مثل أبي العباس القصاب، وأبي الحسن البستي، وأبي علي الدقاق، وأبي سعيد أبي الخير والشيخ أحمد، ولكن أياً منهم لم يكن يحترف الشعر وهذا ما يدل على أن الشعر الصوفي قبل السنائي كان شائعاً بين مشايخ التصوف.
وقد ظهرت في أواخر هذا العهد آثار نفوذ الشعراء الناطقين بالعربية في الشعر الفارسي. ونلاحظ في شعر فرخي (تـ429 ﻫ) علامات التأثر بالقصص الغنائية في الأدب العربي، وكذلك الصور الشعرية للشعراء العرب. كما نُسجتِ في شعر منوجهري (تـ 432 ﻫ) صور من الطبيعة مستلهمة من عرائس الشعر العربي، تأثرت قبل كل شيء بالصور الشعرية للشعراء العرب، وخاصة شعراء العهد الأول.
وتتضمن أشعار شعراء هذا العصر استخدام الألفاظ والتعابير البسيطة الخالية من التصنع، والصناعات البديعية البسيطة واستعمال الألفاظ المحلية التي نُسخت فيما بعد. وقد شاع في هذا العهد استخدام الردائف البسيطة وقد تأثر الشعراء أحياناً بنظرائهم العرب. وقد سمي هذا الأسلوب التعبيري في آثار النقاد وكتّاب التاريخ الإيرانيين باسم الأسلوب الخراساني وأحياناً التركستاني.
النـثر : تبقت من آثار النثر في هذا العهد نماذج لا يتضمن بعضها التقرير الأدبي فغالبيتها اختص بالمواضيع العلمية. ويمكن أن نذكر في هذا المجال حدود العالم من المشرق إلى المغرب الذي ألفه مؤلف مجهول في حدود سنة350 ﻫ، وكذلك الأبنية عن حقائق الأدوية لأبي منصور الهروي ودانشنامه علائي لابن سينا وتاريخ البلعمي لأبي علي البلعمي وترجمة تفسير الطبري لأبي جعفر الطبري وترجمة السواد الأعظم في عقائد أهل السنة لأبي القاسم الحكيم السمرقندي (تـ 342 ﻫ).
[يتبع]

الأوضاع السياسية والاجتماعية في إيران في عهد الدولة البهلوية (د/ أحمد موسى)

نقلاً عن كتاب "روزگاران" لعبد الحسين زرينكوب بتصرف
انتهت سلطة القاجاريين في إيران تقريباً ﻣﻨﺬ تعيين احمد شاه وزير حرب الانقلاب، قائدَ الجيش رضا خان رئيساً للوزراء سنة 1923 ورحل هو نفسه إلى فرنسا قصد النزهة والترفيه. وكان ما حمله معه هو اسمه وحقوقه المَلَكية. تمكَّن "قائد الجيش" - الذي كان قبل وصوله إلى منصب رئاسة الوزراء وزيراً للحرب أوائل عمر الانقلاب، وبدعم غير ملحوظ لكنه محسوس، من طرف مخططي الانقلاب- تمكَّن من صعود سلم السلطة والنفوذ درجة درجة، بدءً من مرحلة الجندية وصولاً إلى مرتبة القيادة في مدة تقارب العشرين سنة، ومن مرحلة القيادة إلى المَلَكية، بدعمٍ من الانجليز وباستغلال الأوضاع السائدة في البلاد في مدة تقل عن ثلاث سنوات.
وقد كان "قائد الجيش" طيلة فترة غياب الشاه القاجاري – الذي لم يجد مجالاً للعودة إلى البلاد بعد خروجه منها– الحاكم الحقيقي والمطلق العنان لإيران، بالرغم من محاولة المجلس والأقلية النيابية وولي العهد محمد حسن ميرزا وقائد الأقلية سيد حسن مدرس الوقوف ضده. لكن أحداً لم يستطع الحيلولة دون تقدمه في الحد من سلطة ونفوذ القاجاريين، ونجح بفضل توفر الظروف وبفضل القدرة والكفاءة التي تفرد بها عن سائر رجال عهده في شق طريقه نحو حيازة تاج وعرش احمد شاه الذي أهملهما مرات عديدة. لقد برز اسمه في الساحة السياسية مع الانقلاب الذي قاده الكاتب الصحفي الشاب والمتحمس والمرتبط بالسفارة البريطانية سيد ضياء الدين طباطبائي. كان عقيد "قزاق خانه" و م يكن بعد معروفاً بين الأوساط السياسية والصحفية.
 وُلد رضاخان ميربنج المعروف بقائد الجيش في قرية "آلاشت" التابعة لمنطقة "سواد كوه" في "سارى". نشأ في مرحلة شبابه على يد رؤساء القازاق، وكان يُعرف بينهم باسم رضا ماكسيم لمهارته في استعمال السلاح الرشاش "ماكسيم". فاشتُهر بينهم من يومها بالشجاعة والكفاءة القيادية والانضباط العسكري. ترأس في سن الأربعين فوجاً من القازاق. وقد أكد الجنرال البريطاني ادموند آيرونسايد الذي كان له دور فعال في تخطيط الانقلاب ضد احمد شاه، و                                                           الذي كان هدفه -حسب قوله- تأمين منافع الدولة والبلاد، أكد أن رضاخان الرجل الوحيد الذي يصلح –حسب تعبيره– لإنقاذ إيران. ترقى "عقيد القازاق" إلى درجة العميد بسرعة، وتقلد مهام وزارة الحرب في حكومة الانقلاب.
 أعاد قائد الجيش ورئيس الوزراء فيما بعد، الانضباط والنظام اللازم لإيران. كما جَدَّ في القضاء على طغيان العشائر وإخماد الفتن وتثبيت الأمن في فترة انهيار القاجاريين.
إن مواجهاته لهذه الثورات (ثورة جنگلی ها في گيلان، وثورة الكولونيل محمد تقى بسيان في خراسان، وفتنة إسماعيل آقا كرد المعروف بسميتقو في آذربايجان، وثورة الشيخ خزعل حاكم المحمرة) لم تدم طويلاً، وجعلت منه قائداً مقتدراً وسياسياً محنكاً، مما دفع عدداً من الوطنيين ومؤيدي التجدد والرقي في المجلس والصحافة إلى دعمه والتعاون معه. كما اعتبر بعض هؤلاء –بالرغم من إيمانهم بأنه جاء إلى الحكم وعزل القاجاريين بسياسة بريطانية – سعيه في إحلال الأمن ونشر الثقافة الغربية في تلك الأيام تجديداً جديراً بالتأييد.
 حين كان أحمد شاه في باريس سعت أقلية المجلس بقيادة سيد حسن مدرس إلى إرجاعه إلى إيران قبل أن تتهيأ ظروف انقراض الدولة القاجارية من طرف أعدائها. لكن هدا المخطط لم ينجح، ونجحت مبادرات وتحريكات قائد الجيش وعدد من نواب المجلس الذين تظاهروا ضد الدولة القاجارية بشدة في ترغيب الرأي العام الإيراني حينها في خلع أحمد شاه من السلطة، وإنهاء سلطان القاجاريين. مع ذلك فإن الأصوات التي تعالت من قِبل قائد الجيش بإعلان نظام الجمهورية قوبلت بالرفض من طرف رجال الدين الروحانيين، لأنهم كانوا يرون أن نظام الجمهورية في مفهومه التقليدي يقترن بتيارات العلمانية واللائكية التي عُرفت بمعارضتها للدين الإسلامي في تركيا، لذلك قاوموا هذا الطرح بشدة. في خضم هذه الأجواء قدَّم قائد الجيش استقالة شكلية لعدة أيام قصد إنهاء ما أثارته فكرة الجمهورية من قلاقل وفتن، وأتاح الفرصة أمام المجلس بأقليته الصغيرة للتصويت لصالح خلع أحمد شاه من السلطة. وهكذا تلقى هذا الأخير في فرنسا بكل أسف، لكن ببرودة أعصاب خبر خلعه وسقوط سلسلة القاجاريين. وهكذا عُين قائد الجيش بصفته قائداً عاماً للقوات الإيرانية على رأس السلطة بشكل مؤقت (نونبر 1925)، وبعد عدة شهور صادق المجلس على مرسوم إسناد الملكية له، وتربع على العرش بصفته ملكاً لإيران في ماي 1926. وبالرغم من المعارضة التي شهدتها آخر أيام المجلس لتغيير الملكية ومعارضة أشخاص كـ : مصدق السلطنة وسيد حسن تقى زاده وحسين علاء وإبراهيم حكيمى لهذا الأمر معارضة صريحة، فإن أحمد شاه في باريس أظهر عدم استعداده لاستمرار الملكية في مثل هذه الظروف والأوضاع.
 فرضت الملكية الجديدة -التي ظهرت على الساحة السياسية بواسطة رضاخان ميربنج وأخذت مكان الدولة القاجارية الآيلة للانقراض -نفسها كدولة مترقية ومتجددة وإصلاحية، وكان يجب أن تحد من سلطة الملاكين الكبار ورؤساء العشائر وأمناء المذهب، وأن تزيل كل ما كان يُعتقد أنه تسبب في ضعف وانحطاط الدولة القاجارية المنقرضة، كل ذلك في إطار إمكانيات الحكومة الدستورية ظاهرياً وبالحفاظ على المجلس ودار العدالة وهيأة الدولة والصحافة الحرة ظاهرياً.
  كما تجمدت الأحزاب والصحف ثم انقرضت، كما أن تجربة عدد من الشبان الاشتراكيين الذين كانوا ينشطون بشكل خفي في إطار حزب بسيط، تحت قيادة الدكتور تقى ايرانى، أستاذ الفيزياء وناشر مجلة "دنيا" أوقفت وعُطِّلت وحالت إرادة الملك الديكتاتور دون حصول أي حركة اجتماعية وإصلاحية. كما أن الأشخاص الذين كانوا يتولون مناصب وزارية ويدركون هذه الحقيقة، كانوا يأخذون بقراره في نهاية الأمر، ومن كان يتجاوزه من الوزراء والحكام كان يلقى مصيره بنوع من الأنواع. ومع ذلك كانت علاقته بالسياسية الإنجليزية –على الأقل في السنوات العشر الأولى من سلطنته– متجذرة في الأذهان، ولم يكن معارضوه يتوانوا من تكرار ذلك والتذكير به، خاصة الروحانيين والعلماء. وكانت تدابيره ضد هؤلاء تفسر وتبرر من قبل العامة بهذا المعنى. حتى حرصه وإصراره على الأخذ بالنموذج الحضاري الأوروبي وتوجهه نحو الشعور الشعوبي والقومي ضد العرب كان يُعد من وجهة نظر الروحانيين ضلالاً متعمَّداً، ومغالطة كبرى يتوخى من ورائها إظهار السياسة الإنجليزية في إيران على أنها سياسة كلية مبنية على التجديد والقومية والسعي نحو تقليد الآداب والعلوم والفنون الأجنبية.
  والشاهد على أنه كان خاضعاً للسياسة البريطانية رغم ادّعائه توخي سياسة مضادة للأجانب، هو مفاوضاته التي أجراها مع شركة البترول الإنجليزية لتجديد عقد عملها لمدة ستين سنة أخرى، ومصادقة المجلس الرسمي عليها. ورغم أن تقى زاده حاول الدفاع عن نفسه بكونه كان "آلية فعل وتنفيذ فقط" فاقداً الإرادة والاختيار، إلا أن ذلك لم يحل دون اتهامه –كرضا شاه– بميوله وخضوعه للسياسة الإنجليزية. على كلٍّ لقد حرّك توقيع هذه الاتفاقية وتطبيقها من طرف الشاه ووزرائه والمجلس الخاضع له، مشاعر عدائية ضد الإنجليز، والتي كانت بدون شك مؤثرة في دعم الشعب والعوام لـ"هيتلر" في سياسته المعادية للإنجليز، وحتى بعد استقالة رضا شاه وعزله، كانت سبباً في اهتمام العديد من الشبان بسياسة الجار الشمالي المعتدلة في الظاهر، والثقة بالحملات الدعائية بتأطير من الحركات اليسارية، ومن بينها "حزب تودة" (الحزب الشعبي الإيراني).
  لقد سعى رضا شاه في أواخر حكمه إلى جلب صداقة بعض الدول الغربية حتى يحتمي بها عند الضرورة، وفي حال عدوان روسيا أو بريطانيا عليه. حددت فرنسا صلتها به في إطار لا يفقدها صداقتها مع بريطانيا. لكنه كان يميل إلى أمريكا أكثر، وهي كانت تظهر له ثقة، وكانت تمارس حينها سياسة انطوائية، ولم تكن على استعداد لإعطاء التزام أو تدخل يجرها إلى مواجهة خارج أمريكا. لذلك وجَّه الشاه اهتمامه بجلب صداقة ألمانيا، خاصة وأنها لم يكن يُنظر إليها في إيران حينها كدولة استعمارية، بل كانت تتمتع باقتصاد جيد وكانت مستعدة لتلبية حاجيات إيران في جميع النواحي والمجالات. وكانت هذه العلاقات وراء تأسيس معمل الحديد والفولاذ.
  توطدت علاقة إيران بألمانيا وازداد نفوذها في إيران، مما أدى بسفارتي روسيا وبريطانيا إلى إبداء تخوف بلديهما من هذا النفوذ، واعتبر هذان البلدان اللذان تحالفا ضد ألمانيا في الحرب العالمية أن صداقة إيران لألمانيا تمثل خطراً حقيقياً. لكن إيران باتخاذها سياسة الحياد في الحرب العالمية لم تلب مطالب المتحالفين في طرد الرعايا الألمان من أرضها. ونتيجة لذلك دخلت القوات الإنجليزية والروسية فجأة إلى إيران في 24 غشت 1941 دون إشعار قبلي، وبذلك خضعت إيران لاستعمار التحالف. أصدر على إثر ذلك الجيش الإيراني أوامر لقياداته بعدم المقاومة، ووجد الشاه نفسه مجبراً على ترك إيران.
  كلف الشاهُ محمد علي فروغي المعتزل في بيته بالأخذ بزمام الأمور. كانت استقالة الشاه أمراً لازماً أعقبه الكثير من الجدل واللغط حول من سيخلفه. في الأخير استقال لفائدة نجله محمد رضا البهلوي، الذي كان ولياً لعهده منذ البداية. وهكذا انتهت فترة ملكية رضا خان ميربنج في 15 شتنبر 1941، وتولى الأمر نجله محمد رضا الذي كان شاباً في 22 من عمره فاقداً التجربة العسكرية والسياسية. أما أبوه فلم يعد بالإمكان بقاؤه في إيران، فاستقل سفينة حربية بريطانية نقلته إلى جزيرة موريس، ثم نُقل بعدها إلى جهنسبورك في جنوب إفريقيا، وبقي منفياً فيها إلى أن توفي في غشت 1944. دامت سلطته ست عشرة سنة (1941/1925).
  اعتبرت هذه المدة من وجهة نظر رجال الدين الإيرانيين كابوساً وتهديداً للشريعة الإسلامية وللقائمين عليها. كان حكمه منذ البداية يتسم بالديكتاتورية والاستبداد وشدة النفوذ. وقد أفضى به حرصه الكبير على الملك والمال وعدم قبوله للآراء المخالفة وثقته المفرطة بفهمه ودرايته الشخصية في أواخر عهده إلى حرمانه من مشاورات الرجال العاقلين والمحنكين.

٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
عهد ملكي جديد   
اقترنت ملكية النجل باستعمار البلد وخضوعه لسلطة وإشراف المستعمرين في طهران، وقد كانوا يرون أن الأمن ضروري لإيران في هذه المرحلة، حتى يؤمنوا مصالحهم ويوصلوا التجهيزات والمساعدات العسكرية إلى روسيا عن طريق إيران. لذلك لم يفض انتهاء استبداد رضا خان إلى حدوث ثورات وقلاقل كما كان الشأن في السابق.
استقر الوضع في البداية، وكانت قوى الاستعمار حريصة على تجنب كل ما من شأنه زعزعة الاستقرار الداخلي ونشر الفوضى والإضرار بوحدة البلاد. وهكذا شهدت إيران تعدداً ملحوظاً في الصحف، واتسع مجال الحريات، مما خلق جواً سياسياً جديداً سحب بساط الإبداع والعمل من تحت أقدام بقايا النظام السابق، وفسح المجال أمام ظهور وجوه جديدة على ساحة الحوادث وتأسيس أحزاب يسارية ويمينية بعد فترة طويلة من الاختناق في عهد رضا خان.
  كانت سلطة محمد رضا تنحصر في قصره فقط، وفي قضايا ترتبط بالشكليات والتشريفات. كان مفتقداً لأي تجربة في الحكم، فصرف وقته في البداية في ممارسة الرياضة واللهو والمطالعة، إلى أن بدأ يشارك في المجالس الأدبية والعلمية بتشجيع وإيعاز من رئيس وزرائه العجوز. وشيئاً فشيئاً اكتسب معلومات جيدة في الشؤون الإدارية والسياسية والعسكرية التي كان يبدي فيها رغبة واستعداداً. حتى لما كان ولياً للعهد، وفي مرحلة الدراسة في إيران وسويسرا، فباستثناء اللغة الأجنبية لم يتعلم سوى جزء من المعلومات العسكرية، واهتم بالرياضة. كانت الدولة في بداية عهده مشتتة، فمجلس الشورى اتخذ موقفاً مضاداً للدولة، وصحف المتشددين تطرح قضايا جديدة كل يوم أمام الدولة، وكثرة الأحزاب وقادتها المجهولون والمرتبطون في الغالب بالاستعمار، وكذلك الجدل الدائم بين اليمين واليسار في المجلس كان يوجد المزيد من التشنج، وأيضاً افتقاد رجال الدولة والوزراء للتجربة الديمقراطية، وتأسيس الأحزاب المختلفة كالحزب المعادي للفاشية الذي أسسه مصطفى فاتح، وحزب الشعب الإيراني (حزب تودة) الذي أسسه الشيوعيون، وحزب الإرادة الوطنية الذي أسسه سيد ضياء طباطبائي، وعشرات الأحزاب الأخرى التي ظهرت على الساحة السياسية أسست صحفاً مستقلة وغير مستقلة تجاوز عددها المائة...كل هذا كان يذكي الفوضى التي عمّت البلد، ويحول دون اتخاذ أي قرار أو إرساء النظام من طرف الدولة.
  من بين الرجالات التي كان لها تجربة طويلة مع رضا خان نذكر محمد على فروغي (توفي 1942)، وهناك آخرون كان يميل إليهم المجلس والصحافة لتولي زمام الأمور نذكر منهم : أحمد قوام السلطنة، وإبراهيم حكيم الملك. وهناك آخرون كانت لهم طموحات برلمانية كـ سيد محمد صادق طباطبائي، والدكتور محمد مصدق، وسيد حسن تقي زاده، وسيد ضياء الدين طباطبائي...
  في الوقت الذي كانت الحرب ما تزال في أوجها أعد فروغي اتفاقية ثلاثية أخرج بموجبها إيران من دولة مستعمرة إلى دولة متحدة مع قوى التحالف (1941). في نهاية الحرب ترأس إبراهيم حكيمي –حكيم الملك- الحكومة الثانية وعمل على حل قضية أذربيجان وتخليصها من الاستعمار الروسي. جاء بعده أحمد قوام ليكمل عمله ولتتحرر أذربيجان في عهده.
  مع نهاية استعمار إيران عرف الجو السياسي تغييرات عديدة، وفرض محمد رضا نفسه كمشرف ومراقب لشؤون الدولة بلا منازع. وجاءت كلٌ من حكومتي عبد الحسن ﻫﮋبر (1948) و محمد ساعد (1949) اللتين لقيتا معارضة من الرأي العام، لتفسحا المجال أكثر أمام الملك الشاب الذي لم يكن عمره يتجاوز الثلاثين سنة بعد، للتدخل في شؤون الحكومة وقوات الجيش. كما أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها في جامعة طهران على يد صحافي (فبراير 1949) أتاحت الفرصة له ولحاشيته لحل الأحزاب المعارضة وترويع وترهيب المجلس والصحف. وفي سنة 1949 أسس محمد رضا "مجلس المؤسسين" ليمارس نفوذه في منح صلاحيات للشاه في عزل الحكومة وحل المجلس. وهكذا نجح الشاه في الأخذ بزمام الأمور، واختار رؤساء ضعاف الشخصية وألحق الحكومة بملكيته.
  وعلى إثر ذلك حوصرت الصحافة وتوبعت الأحزاب المعارضة، وساد نوعٌ من الاختناق السياسي في البلد. وبعد انتهاء ولاية المجلس ازداد تدخل الدولة في منع انتخاب معارضيها في المجلس. وعلى إثر ذلك تحصن الدكتور محمد مصدق في القصر وجمع أنصاره ومؤيديه (الذين سيؤسسون فيما بعد الجبهة الوطنية الإيرانية)، وأبدوا معارضة شديدة للانتخابات الجارية. ترأس الحكومة الجديدة الجنرال حاج علي رزم آرا، رئيس أركان الجيش في شهر يوليوز 1950، لكنه لم ينجح في التغلب على الأوضاع المتشنجة وحل قضية البترول، فقامت ضده عدة ثورات دموية قادها كلٌ من آية الله حاجي سيد أبو القاسم كاشاني، وبعض أعضاء الجبهة الوطنية، وأحزاب أخرى، لكنها لم تدم طويلاً لعدم قدرتها على مواجهة الصعوبات، ولأنها لم تكن محط ثقة من المجلس، نذكر منها حكومة رجبعلي منصور، وحكومة حسين علاء، فأجبرت على الاستقالة. لكن مقترح مصدق وأطرافه بشأن تأميم صناعة البترول صودق عليه من طرف المجلس 20 مارس 1951، وبعد استقالة حسين علاء من رئاسة الحكومة (ماي 1951) قَبِل الدكتور محمد مصدق –الذي عرضت عليه قبل هذه المرة رئاسة الوزراء من طرف الشاه ورفضها (1944)– دعوة أكثرية المجلس لترأس الحكومة، وكان ذلك شهر ماي 1951، وانصرف لتحضير قانون تأميم صناعة البترول، لكن الشاه تلقى قبوله لرئاسة الوزراء ببرودة وكراهية، كما أن عدداً ممّن تحصنوا معه في القصر وتعاونوا معه في التأميم لم يخفوا عدم رضاهم بذلك في حين انفصل عنه عددٌ آخر.
  مع ترأس مصدق لرئاسة الوزراء حصل انفراج في الحياة السياسية التي كانت تعرف اختناقاً في عهد حكومة عبد الحسين هزبر ومحمد ساعد. وبعث الحياة في الصحافة من جديد، واستأنفت الصراعات بين الأحزاب السياسية، واضطر محمد رضا للقناعة بالملكية وترك الحكومة للدولة.
  ورغم أن مصدق كان كبير السن إلا أنه أصر على تطبيق برنامجه الذي يشمل تأميم البترول وإصلاح قانون الانتخابات. وقد تعرض مراراً لصعوبات ومشاكل كان وراءها الشاه، ليجبره على الاستقالة، لكنه تابع برنامجه حتى النهاية، مما حذا بالشاه للتفكير في إيجاد سوء تفاهم بينه وبين حاشيته وأتباعه وبذلك يهيئ الأرضية اللازمة للإطاحة به. وهكذا خطّط للانقلاب عليه بأياد أمريكية وإنجليزية، فتمت الإطاحة به ومحاكمته في محكمة عسكرية (18 يناير 1954).
  بعد ذلك تسلم فضل الله زاهدي الوزير السابق في حكومة مصدق زمام الأمور. وعاد الشاه، الذي كان قد فرّ إلى الخارج أيام الانقلاب على مصدق، و أعاد معه حكومة الفساد والاستبداد التي عرفتها إيران في أواخر العهد الناصري، من حبس واعتقال ونفي المعارضين وأخذ الرشوة وقبول الهدايا الباهظة والمساعدات المجانية من الأمريكيين... وتمّ حل قضية البترول كما خَطَّط لها مصممو الانقلاب بواسطة علي أميني، وهو من الوزراء السابقين في حكومة مصدق، وباتت الحكومة رهن إشارة مصممي الانقلاب غير الظاهرين ومنفذيه الظاهرين. ومن حينها لم يحدث أي أمر أساسي في إيران لا يخضع للتبعية المطلقة والتأمين الشامل للمصالح السياسية والعسكرية الأمريكية.
  كانت حكومة زاهدي امتداداً للاختناق والفساد وأنواع التجاوزات، وتصفية الحسابات الشخصية، وضيَّعت هذه الحكومة جزء كبيراً من أموال خزانة الدولة، وكل المساعدات المالية التي كانت تتلقاها من أمريكا بدعوى رفع الصعوبات والمشاكل المالية التي تسببت فيها حكومة مصدق. بلغت مفاسد زاهدي حداً كبيراً لم يعد معها الشاه يتحمل حكومته أكثر من ذلك. لم تستطع حكومته ومجلسه محو مشاعر العداء للأجانب التي كانت سائدة في فترة حكومة مصدق. امتد فساد حكومة زاهدي حتى خارج إيران. فقرر محمد رضا الاستعانة بالأجانب واغتنام جو الرعب والاختناق الذي أوجده زاهدي لاستعادة قدرته وسلطته. فجاءت حكومة حسين علاء (أبريل 1955)، وتلتها حكومة الدكتور منوجهر إقبال، لكن هذه الأخيرة اعتُبرت في الخارج مستبدة وخارجة على قواعد الحكومة الديموقراطية، فكان جواب الشاه على ذلك إيجاد حزبين، حزب المليون وحزب الشعب، أما حزب المليون فيقوده الدكتور إقبال الذي كان يعتبر نفسه خادماً للملك، وحزب الشعب بقيادة أسد الله علم الذي كان يعتبر نفسه غلاماً للشاه. كان كلا الحزبين تابعين للشاه. كانت حكومة إقبال بمثابة مظلة لحكومة الشاه. حين جاء شريفي إمامي تابع نفس النهج في الطاعة والولاء للشاه حتى أجبر على الاستقالة بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة واعتصام المعلمين.
  بعد ذلك وبدعم من السفارة الأمريكية استلم الدكتور علي أميني السفير السابق لإيران في أمريكا، والذي يحظى بثقتها، استلم رئاسة الوزراء (5 ماي 1961). لكن هذه الحكومة التي حالت دون تدخل الشاه في جزئيات شؤون الحكم وتوسيع نفوذه المتزايد لم ترق له. فتوسل بما يستطيع لعزله وتولية صديقه السابق وصاحب ثقته أسد الله علم (21 يوليوز 1963). فجدت هذه الحكومة في إسناد أي نوع من الإصلاحات لشخص الشاه، فروجت لإصلاحات ادعى الشاه أنها جزء من سلسلة من الإصلاحات الاجتماعية وسماها فيما بعد بـ "الثورة البيضاء" أو "ثورة الملك والشعب".
  لكن هذه "الثورة البيضاء" كانت تتضمن أموراً أثارت غضب رجال الدين وسخطهم، كما أن مصادقة حكومة علم على قانون يتعلق بانتخابات الجمعيات في الولايات والمحافظات كان يحوي مواد غير مقبولة لدى الروحانيين أيضاً. وفي ظل معارضة وانتقاد حوزة الروحانيين في مدينة قم ضد الحكومة برز اسم الإمام الخميني –الذي كان يسمى حينها آية الله خميني- بسبب انتقاداته الصريحة والشجاعة. فلقي ذلك تأييداً ودعماً من عامة الشعب، كما أن تشديد الخناق على الصحافة اعتُبر لدى العامة والروحانيين على حد سواء، ممارسة لمزيد من التضييق، ممّا ترك انطباعاً سلبياً لدى الرأي العام. تعرضت حكومة علم على يد الإمام الخميني لأشد أنواع المعارضة وأكثرها صراحة وقاطعية. واعتبر الروحانيون ممارسات رئيس الحكومة أسد الله علم موجبة لإفساد الدين الإسلامي وشريعته وتعدياً صارخاً على القانون الأساسي. مع ذلك استمر في إصلاحاته التي كانت شاملة للمواد السداسية، والتي كانت تحتاج من وجهة نظر المجتمع الإسلامي إلى تأييد من طرف الروحانيين. فعرضها على المصادقة (فبراير 1963) واعتبر إجراءها لا يتوقف على مراجعة آراء الفقهاء. وكان هذا التصرف إعراضاً صريحاً للشاه وحكومته عن حكم الشريعة. حين خاطب محمد رضا أثناء إجرائه لجزء من الإصلاحات أهالي قم وجه إهانات شديدة للروحانيين اعتُبرت إعلان حرب ضدهم. فاتخذ العلماء والطلاب والفقهاء وكثير من متديني البازار والإدارات موقفاً معارضاً من الدولة. شهدت السنة الموالية حادثة "القيام العام" في طهران (5 يونيو 1963) وأورد الإمام الخميني خطاباً شديد اللهجة في حق الشاه وحكومته، مما أدى إلى توقيفه ونفيه خارج إيران، ونعت معارضة أتباع الخميني داخل البلد بـ "الرجعة السوداء" وإدانتها بشكل شديد. لكن كل هذه المضايقات للروحانيين، ومن جملة ذلك نفي الإمام الخميني إلى تركيا والعراق، لم يكن لها نتيجة تذكر، بل على العكس من ذلك أثارت معارضة الرأي العام لها. ونتيجة لذلك برزت في بعض أنحاء إيران ممارسات تخريبية من طرف عدد من الجماعات المتدينة ضد الشاه.
  أفضت سياسة الشاه المعارضة للروحانيين، والتي نهجها رؤساء وزرائه : علم ثم حسنعلي منصور و أمير عباس هويدا إلى الإفراط في التبعية للغرب، والحرص الشديد على حفظ مصالح أمريكا، وتطبيق مخططات مستشاريها في إيران. أبعدت هذه المخططات الأمريكية إيران كلية عن التقاليد الوطنية والمذهبية، وجرّتها إلى المزيد من الإفراط في الطاعة للغرب، وأدخلتها في المعسكر الغربي المعادي للإتحاد السوفيتي، وهي لم تكن تأمن حتى جانب جارتها الجنوبية العراق. أما المشاريع السياسية الاجتماعية فكان يُعوَّل على أمريكا في تأمينها. وكانت إيران تعتقد أنها آمنة الجانب من الجبهة الداخلية،  وكأنها تناست معارضة عامة الشعب بقيادة الروحانيين. أما احتفالات العرش بالذكرى الخمسينية للملكية وخاصة الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة مرور 2500 سنة على قيام النظام الشاهنشاهي في إيران، فعوض أن تبرز للعالم عظمة إيران وجلالها وتاريخها التليد، كرست لدى الرأي العام العالمي فقر الشعب وسخطه على الأوضاع وطيش الدولة. ثم إنه في السنوات الأخيرة لملكية الشاه كثرت مصاريفه ومصاريف سفر وزرائه وممثليه إلى الخارج.
  كان الشاه محمد رضا قد كدس أموالاً كثيرة بعد عودته من فراره إثر الثورة الفاشلة على مصدق (15 غشت 1953)، ومنذ ذلك الوقت بدأ يتدخل في المشاريع العمرانية والمعاملات الحكومية. وهكذا أصبح له ولأفراد عائلته يد في كل المشاريع الاقتصادية في البلد ممّا أثار في بعض الأحيان حفيظة بعض مدراء البنوك ومسؤولي التجارة والصناعة.
  ازدادت وتيرة التدخل الشخصي للشاه في شؤون البلد في حكومات كل من أسد الله علم وحسنعلي منصور وأمير عباس هويدا وجمشيد آموزگار فلم يعد يلتفت لآراء أطرافه وحاشيته. وهكذا عزل عدداً من رجالاته الذين خالفوه الرأي، وحقّر آراء البعض الآخر ممّن كانوا يرون في سياسة استمالة رجال الدين سياسة معتدلة. وفي السنوات الأخيرة كان يفسِّر كل نقد يُوجه إليه على أنه معارضة لشخصه.
  لكن محاولة توسعة وتنمية بعض الصنائع الداخلية يعتبر أمراً مهماً، لكنه لم يحقق لإيران الاكتفاء الذاتي. أما اهتمامه الخاص بأخذ مظاهر الرقي والتمدن الغربي لم يكن يراعي خصوصيات مجتمعه واحتياجات بيئته.
 وفي النهاية وحين أجبره غضب وقيام الشعب على ترك إيران، لم تمتد إلى نجدته أي يد من طرف الغرب الذي كان خادمه المطاع مدة عشرين سنة الأخيرة. ومع خروجه من مطار مهرآباد انتهت الملكية البهلوية. أما حكومة شابور بختيار التي أقامها لحفظ ظاهر الأمور وأقام بجانبها مجلساً ملكياً صورياً فلم تدم أكثر من 37 يوماً.
  إن عودة الإمام الخميني من باريس وحرارة الاستقبال الذي ووجه به كان بمثابة إعلان لانتفاء وسقوط ملكية الأسرة البهلوية.
 بعد الخروج الاضطراري للشاه من إيران قضى آخر أيام عمره متنقلاً بين المغرب والمكسيك وبانما. وافته المنية في مصر سنة 1980، ودفن في مسجد الرفاعي بالقاهرة. تزوج من ثلاث نساء وخلّف أربعة أولاد.
  استمر حكم الأسرة البهلوية –الأب والابن- ما يقارب نصف قرن (1925/1979)، وكان في أغلب فتراته معارضاً لرجال الدين والشيعة ومصطدماً معهم. أما أهم أهداف هذه الأسرة والمتمثلة في هدفين رئيسيين : الحداثة والتجديد لحد الإفراط في التبعية للغرب والتوجه إلى إحياء التاريخ القديم لإيران، فإنه كان يتعارض إلى حد كبير -على الأقل في ذلك العهد- مع نظر الروحانيين ونفسية أكثر المسلمين. كان نهج الحكومة البهلوية يرمي في الظاهر إلى حفظ مبادئ وأركان الثورة المشروطة، لكنه جعل من الاستبداد والتفرد أساساً لملكيته.
  وخلاصة القول فإن ثقافة إيران في عصر أولئك أوجدت اتجاهاً جدَّ في تحقيق الحداثة والتجديد، واتجاهاً آخر سعى إلى إحياء الماضي التليد لإيران، نذكر من بين الذين ينتمون إلى الاتجاه الأول : علي أكبر داود، وسيد حسن تقي زاده، وسعيد نفيسي، ومن التيار الثاني نذكر الأسماء التالية : إبراهيم بور داود، وحسن بير نيا. وكان هناك أسماء أخرى اتخذت منحى وسطاً أمثال : محمد قزويني، ومحمد علي فروغي، ورشيد ياسمي، وملك الشعراء بهار، وساهمت في التقريب والتلفيق بين التوجهين. من بين باقي المشاهير فإن اسم علي أكبر دهخدا برز في مجال اللغة والأدب، وعلي نقي وزيري سطع نجمه في عالم الموسيقى، وحسين بهزاد في فن المينياتور، ورضا كمال شهرزاد اشتهر في المسرح، وهناك أسماء كثيرة أخرى لا يسع المجال لذكرها كلها في هذا المختصر. 
 

    

الأوضاع السياسية والاجتماعية في إيران في عهد الدولة القاجارية (د/ أحمد موسى)


نقلاً عن كتاب (روزگاران) لعبد الحسين زرينكوب بتصرف.
   
   استمرت آخر التجليات عن شكل الحياة والعادات الاجتماعية لإيران في الماضي، والتي تُصوِّر بعض الكتب، كقصة "حاجي بابا اصفهاني" صوراً متشائمة وسلبية عنها، إلى أواخر العهد القاجاري.
    إضافة إلى الروايات التي جاءت في كتب مثل "قصص العلماء" للتنكابني، والإشارات التي وردت في "رساله مجديه" و"يك كلمه"، والانتقادات التي أثارها أمثال ملكم خان ارمنى وميرزا آقاخان كرمانى وآخوند زاده و عبد الرحيم طالبوف، وعلى الخصوص ما جاء في كتاب "سياحتنامه ابراهيم بيك" حول تقارير المسافرين الأوروبيين إلى إيران من أمثال سرجان ملكم وﭘولاك وفريزر وكاﺳﭘارد روويل اﻟﺬين جاؤوا إلى إيران في فترة القاجاريين، فإننا نجد أيضاً الاختلاف الكبير بين ذلك وبين ما كان بعد تلك الفترة بفعل التقليد للحياة وللعادات الأوروبية أو بفعل التأثر بالعوامل الناشئة عن رؤية العصر الجديد في إيران.
   كما أن تعجب وكراهية وحتى نفور بعض الإيرانيين حينها من العادات والتقاليد الغربية بفعل مشاهدتهم للحياة الأوروبية يُظهر بجلاء الفرق بين عادات وأوضاع إيران في عصر القاجاريين وما قبله، وبين ما عرفته إيران من النفوذ الغربي فيما بعد، كما أن التأمل في ذكريات وخواطر كبار رجالات العصر الأخير، والذي يعتبر كتاب "زندﮔﺎنى من" لعبد الله مستوفى نموذجاً له، يصور الفارق الكبير بين ﻫﺬين الوجهين للحياة الاجتماعية واليومية في إيران طيلة القرن الأخير، من هنا يمكن أن نستحضر معنى التغيير الذي شهدته إيران في القرن الأخير وصورته قبل ﻫﺬه الفترة، والتي كانت مرحلة التفتح أواخر العهد القاجاري والثورة الدستورية مؤثران في تغييره التدريجي ثم المطلق.
    عرف عدد سكان إيران في ﻫﺬه المرحلة انخفاضاً مشهوداً مقارنة بالعهد الصفوي. وضمَّ عناصر وأجناس متنوعة من ترك وكرد وبلوﭺ وعرب وأرامنة ومسيحيين آشوريين وزردشتيين ويهود وقوقاز، كما ضمَّ المجتمع الإيراني طبقات اجتماعية متفاوتة بين أمراء وأعيان وعلماء وأسياد العشائر وأصحاب المناصب الإدارية العليا وغيرهم ممن لهم امتيازات وحظوة، وطبقات أخرى تفتقر إلى أبسط الامتيازات وتتحمل كل أنواع الجور والضرائب، أمثال طبقة الملاكين الصغار والحرفيين والجنود والبدو والعشائر.
    ﻣﻨﺬ عهد فتحعلى شاه الذي كان يُعيِّن أمراءه وأولاده على حكومة الولايات، أصبحت كل ولاية أو مدينة أو قصبة مركزاً لسلطة واحدٍ من أبناء أو أحفاد ﻫﺬا الملك.
   كان هؤلاء الحكام المنسوبين إلى بيت السلطنة يزعزعون بأنفسهم الأمن بتجاوزاتهم وتعديهم ومصادراتهم وسلبهم وجرائمهم.
 كانت تتجسد في حكومة الشاه -وخاصة في العصر الناصري- كل عيوب وسلبيات الاستبداد الشرقي، وكل تغيير للحكومة في نظامه المستبد سواء في طهران أو في ولايات أخرى لم يكن سوى تغيير للعنف والاستبداد والتجاوز بمثيله، لا غير.
فإضافة إلى أذربيجان التي كانت تعتبر مركز استبداد ولي العهد وقصر إيران الثاني، فإن مسعود ميرزا ظِلّ السلطان، الابن الأكبر للشاه، كان الحاكم المطلق في أصفهان وكان ظلمه واستبداده يوحي بوحشية التتار والمغول. أما في طهران فإن الابن الآخر للملك، وهو كامران ميرزا نايب السلطنة كان بصفته وزيراً للحرب لا يتورع عن أي نوع من أنواع الظلم. وفي فارس كان فرهاد ميرزا معتمد الدولة مثالاً للقسوة والتعذيب. وفي كرمان وخراسان وسائر البلاد كان الشعب تقريباً في معرض تجاوزات ودسائس الأمراء والحكام ومن تحت أيديهم. ولم يكن بإمكان أحدٍ تقديم تظلم أو النجاة من شرهم. وإنَّ ما جاء في كتاب "تاريخ بى دروغ"  لظهير الدولة صهر الملك ناصر الدين شاه يُظهر نماذج لمظالم وفجائع الملك وأمرائه في ذلك الوقت. وفي نهاية ﻫﺬا العهد يُلاحظ استمرار الفساد والرشوة وتجاوزات رجال الدولة وممارسة التمييز وعدم تطبيق القانون في شؤون المملكة، ويلاحظ كذلك التدخل المتزايد للروس والإنجليز في الشؤون السياسية للبلاد وتنافسهم في إحراز المزيد من الامتيازات...كل ﻫﺬا كان يضر بأمن الشعب ضرراً بالغاً. كذلك فإن أسفار الملك الترفيهية إلى أوروبا مع كوكبة من الرجال الجهال لم يكن يجر أي نفع للبلد والمواطنين، كل ﻫﺬا كان سبباً في الحقد الذي مافتئ يكبر في صدور الطبقات الفاقدة للامتيازات والمثقلة كواهلها بالضرائب تجاه استبداد القاجاريين وكان يُشكِّل همّاً وشغلاً شاغلاً للعلماء والمفكرين.
   في خضم ﻫﺬه الأوضاع لم يكن أحدٌ من رجال الدولة يفكر سوى في استمرار الوضع القائم، اللّهم إلاّ إذا استثنينا منهم قائم مقام فراهانى وميرزا تقى خان أمير كبير وميرزا حسين خان ﺳﭙهسالار وميرزا على خان أمين الدولة اﻟﺬين أظهروا أفكاراً تقدمية وإصلاحية والتي لم تُتابع أبداً.
  يُشكِّلُ ميرزا آقا خان نورى نموذجاً لصورة تفكير رجال الدولة القاجارية الذي صرّح بعدم السماح للشعب بالتعرف على المبادئ والقوانين والحقوق. وهناك نماذج أخرى لرجال ﻫﺬه الدولة اﻟﺬين استمروا في ممارسة الاستبداد وكل أنواع الدسائس والفجائع نذكر من بينهم : حاجى ميرزا آقاسى ايروانى الصدر الأعظم لمحمد شاه، وعبد المجيد ميرزا عين الدولة الصدر الأعظم لمظفر الدين شاه، وميرزا على اصغر خان ﮔرجى الشهير بأمين السلطان الصدر الأعظم لناصر الدين شاه. أما عامة الشعب فكانوا يرزحون تحت نير الظلم والرعب ويرفلون في ثياب الفقر والجهل.
   أما الجيش النظامي الإيراني فإلى أواخر العهد الناصري كان في وضع لا يجلب النفع لا للملك ولا للمملكة.
   كان مصطلح العلم ينحصر على العلوم الشرعية، ولقب العلماء ينسحب على المجتهدين والمدرِّسين والطلاب المنتسبين إلى الحوزة العلمية. في أواخر ﻫﺬا العهد نُقلت الحوزات العلمية الكبيرة إلى كربلاء والنجف، لكن قبل ذلك الوقت كانت دائرة في كل نواحي إيران كطهران وتبريز ومشهد وقم وكاشان وأصفهان وبروجرد. وكانت علوم الفقه والأصول والتفسير والكلام والحديث وعلوم البلاغة والأدب تشكِّل الأساس في الدروس العلمية حينها. لكن العلوم غير الشرعية لم يكن لها موقع يُذكر، ومع ذلك فإن العلوم الطبيعية والرياضية كانت تُدرس ضمن دروس الحكمة.
 أما البلاغة والنحو وعلوم العربية فكانت تحظى بمنزلة متميزة لدى أصحاب التاريخ والتفسير والأدب، وكان التاريخ يشمل المغازي وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحوال الرجال ومشاهير الإسلام. ﻫﺬا بالرغم من أن ترجمة بعض التواريخ الأوروبية في أواخر ﻫﺬا العصر كانت سبباً في الإطلاع على بعض أحداث التاريخ المعاصر.
    كان العلماء والمجتهدون والأسياد يحظون باحترام خاص في المجتمع، و كان لهم نفوذ واضح في أكثر القضايا الاجتماعية. أما الأسياد فكانوا يُعاملون باحترام وقداسة استثنائية حتى وإن لم يكن لهم نصيب من العلم، يكفي أنهم ينتسبون إلى بيت النبوة. كما أن بعض علماء ﻫﺬا العصر – خاصة الأسياد منهم -  تمكنوا من تكديس ثروات طائلة بسبب جمع أموال النذور والخُمس والأوقاف والمساجد والمدارس والزوايا التي كانوا يتولون الإشراف عليها، أو بسبب ولاية الأيتام وإدارة أموالهم وممتلكاتهم. وكانت سلطتهم توازي أحياناً سلطة الحكام. ومن باب التمثيل نذكر أسماء العلماء التاليين اﻟﺬين لم تحل ثرواتهم وأموالهم الطائلة دون استمرار نفوذهم بين عامة الشعب : حجة الإسلام شفتى وحاجى ملا على كنى وحاجى آقا محسن عراقى...
   اكتشَفت إيران أوروبا لأول مرة في عهد الصفويين، لكن تبعات ﻫﺬا الاكتشاف لم تظهر إلا في عهد القاجاريين. فالروابط بين الأوروبيين والإيرانيين أصبحت في عهدهم ملزمة يستحيل التراجع عنها. وإن توسيع ﻫﺬه الصلات جعل إيران في معرض التأثر بالحضارة والثقافة الأوروبية. كما أن الإحساس بضرورة اكتساب العلوم الأوروبية وتعلم لغتهم – الذي كان جواباً طبيعياً لحاجة طبيعية وآنية – ظهر في ﻫﺬا العصر.
 كما أن الحروب الإيرانية الروسية كانت تملي على الحكومة ضرورة إصلاح النظام وإعداد أسلحة جديدة، وﻫﺬا بدوره كان يفرض التعرف على العلوم والصناعات الجديدة في الغرب. وقد بادر بعض رجالات ﻫﺬا العصر بإصلاحات في ﻫﺬا الاتجاه غيَّرت إلى حد كبير صورة الحكومة والنظام الإداري في إيران، نذكر من بينهم : ميرزا بزرﮒ وميرزا أبو قاسم قائم مقام وميرزا تقى خان أمير كبير وميرزا حسينخان ﺳﭙهسالار وغيرهم. وقد صدر بيانٌ من الحكومة في العهد الناصري (1276ق) يلزم اكتساب "العلوم والصناعات المتداولة في أوروبا" باعتبارها "أسباب رقي وازدهار الدولة".
   لكن رغم أن الاطلاع على علوم الفيزياء والرياضيات والطب والهندسة الأوروبية تم ﻣﻨﺬ تأسيس مدرسة "دار الفنون" في طهران، ورغم التغييرات التي طرأت في نظم وطرق استعمال الأسلحة الجديدة، إلا أن عدم إيمان مسؤولي الدولة بضرورة تغييرٍ مواكبٍ لتلك التغييرات في الأنظمة والشؤون المدنية كان حائلاً دون حصول التطور الكامل ﻟﻫﺬه العلوم والصناعات في إيران. وحتى القيام بنشر الصحف وإيجاد تغيير في بعض الترتيبات الإدارية لم يكن ليثمر أو ليرفع الظلم والاستبداد عن الشعب إلاَّ بإجراء الإصلاحات اللازمة في القضايا والشؤون المدنية. ﻟﺬلك فحتى الثورة الدستورية (المشروطة) لم تؤد إلى رفع حواجز الترقي والازدهار بشكل قطعي وفوري، بل سقطت هي نفسها في دوامة خلافات شديدة بين المطالبين باستمرار الوضع القائم وهواة التغيير والتجديد ممَّا حدا بها إلى فقد قوتها وقدرتها.
    استطاعت الصحافة الفارسية التي كانت تنشر في الغالب مقالات مثيرة حول المؤسسات الاجتماعية في أوروبا والعمران والازدهار والعدالة الاجتماعية وحسن تعامل الأوروبيين، كل ذلك بلحن مبالغ فيه، وكذلك حول دخول السلع والصناعات والاختراعات الأوروبية الجديدة والألبسة والأسلحة ولوازم البيوت والإدارات وغير ذلك، استطاعت في الأخير أن تثير الانتباه إلى الفوائد الجمة للحضارة الأوروبية.
    لكن ما يُنقل عن بعض مثقفي العهد الناصري وبعض رواد الحركة الدستورية في شأن الأخذ بالتمدن والحضارة الأوروبية دون أي شرط أو قيد، كان يُفسر من قِبل المطالبين باستمرار الوضع القائم بأنه نفي للشريعة الإسلامية، وبالتالي كان يتعرض للنقد. وﻫﺬا كان مدعاة إلى الوقوف في وجه المشروطة وسبباً في عدم استحكام بنائها.
 اتخذت الحكومة الإيرانية بعد مرور سنوات قليلة من العهد القاجاري التقليد الأعمى لظاهر الحضارة الأوروبية شعاراً لها. وبعد الحرب العالمية الثانية التي كشفت المقاصد الاستعمارية الأوروبية وأطماع الدول الغربية في إيران والدول الإسلامية وغير الإسلامية من الدول الشرقية ظهرت ردود أفعال كثيرة سواء من الأشخاص المتدنيين أو من غيرهم ممَّن كانوا يطالبون بالتحرر من التدخل والانصياع للحاجة إلى العلوم والصناعات الغربية، وانعكس كل ذلك في أدب عصره بشكل تدريجي.
•  •  •

   انصبت الفعاليات الأدبية في إيران طيلة نصف العهد القاجاري على إيجاد وتهيئ الأرضية لنهضة ثورية مشهورة كان هدفها الأساسي نشر العدل وتأسيس "دار العدالة". وبالرغم من أن مظفر الدين شاه كان من بين آخر الملوك القاجاريين اﻟﺬين وقَّعوا على منشور ووثيقة إيجاد "دار العدالة"، والثورة الدستورية (المشروطة)، وخَلَّدَ اسمه في التاريخ كـ"عدل مظفر"، فإن استقرار أصلها عجَّل بسقوط الدولة القاجارية، كما أن "دار العدالة" التي أُسِّست بمجهود قادة تلك النهضة، وأُطلق عليها اسم مجلس الشورى الوطني، أعاد بعد سقوط السلسلة القاجارية استبداد الحاكم القاجاري بصورة أخرى وبلباس المشروطة. لذلك لم تتبق من مكتسبات الثورة الدستورية سوى الاسم ومؤسساتها الشكلية، بالرغم من أن آداب تلك الفترة كان لها دورٌ فعّال في التحول الأدبي لإيران.
 كانت الثورة الدستورية في الحقيقة انفجاراً للعُقَد التي تراكمت في أذهان أكثر طبقات المجتمع الإيراني طيلة سنوات الاستبداد والتجاوز القاجاري وفقدان العدالة والحرية وانعدام مراجع التظلم المحايدة.
   انضمت طبقة من علماء العصر في المطالبة بدار العدالة هذه إلى المطالبين بذلك ممّن كانوا في معظمهم من التجار والحرفيين والطبقات المسحوقة الذين كان تأسيس "دار العدالة" بالنسبة لهم أمراً لازماً. لكن الطبقات المزارعة وبقية الرعايا لم تنضم إلى هذه المطالبات ولم يكن لها دورٌ يُذكر. أما الملاَّكين الكبار وأصحاب الرساميل فكان الوضع القائم مناسباً لهم، وأٌجبر صغار الملاَّكين على متابعتهم، لأن إقامة "دار العدالة" التي ستكون مرجعاً لتظلمات الرعايا سيضر بمصالحهم. وبذلك فإنه من الطبيعي ألا يشارك في مثل هذه النهضة طبقات المزارعين والرعايا الذين يتبعون ويطيعون كبار الملاَّكين ويفتقدون إلى الرشد الفكري والثقافة العادية.
 أدى التضامن التدريجي للأشخاص الذين يهمهم إيجاد "دار العدالة" مع العلماء والمفكرين والمثقفين والذين سببوا ضرراً كبيراً للحكومة المستبدة في قضية "التنباكو"، أدى كل ذلك التضامن التدريجي إلى جلب واستقطاب بعض رجالات الدولة والإدارات، وإلى تحرك الأشخاص الذين كانوا يعانون من تخلف إيران في السياسة الدولية، والذين كانوا يعتبرون ضعف الحكومة مقابل أطماع الدول الأوروبية ناشئاً من فسادها ومن فقدان القانون والعدالة، والذين كانوا يرون أن إيجاد التغيير الاجتماعي دفعة واحدة وبشكل فوري أمر لازم لارتقاء وازدهار إيران، أدى ذلك إلى تحرك هؤلاء في اتجاه تأييد وقيادة المطالب الاجتماعية ومشاورة العلماء والوعاظ وأرباب الصحف، وقد أبانوا في هذا الأمر حماسة كبيرة. وحين سنحت الفرصة لإبراز عدم الرضا والسخط على ظلم واستبداد الحكومة، تحرك كل هؤلاء تحت قيادة العلماء وتحولت حركتهم بمساندة من الصحف والوعاظ والخطباء إلى نهضة ثورية عجزت معها الدولة عن استعمال العنف الذي توسلت به في حادثة "تنباكو" وفشلت فيه.
   لكن توالي الحكومات بين نهاية فترة الاستبداد الناصري (1313ق) وبداية النهضة المطالبة بالعدالة (ح 1323ق) ببرامج مختلفة كان أيضاً من الأسباب التي أدت إلى صحوة الناس أو إثارة شكوكهم تجاه بعض حكام ورجال الدولة. اهتم عليخان أمين الدولة (المتوفى 1322ق) والذي وصل إلى صدارة الدولة في بداية حكم مظفر الدين شاه، اهتم إلى حدٍ ما بنشر المعارف وتوعية الأذهان، لكن حكومته لم تستمر، ومع مجيء مبرزا على أصغر خان، الصدر الأعظم المعروف في نهاية العهد الناصري، وتعويض سابقه، تجدد الاختناق واستؤنف الاستبداد الذي كان في الماضي، واستمرت المصاريف العشوائية التي أثقلت كاهل الدولة ودفعتها إلى الاستدانة من الخارج. مع ذلك وبعد مدة قصيرة برزت حركات معارضة للأتابك انتهت بخلعه وتولي الأمير عبد المجيد ميرزا عين الدولة. لكن مجيء هذا الأخير واستبداده وانعدام العدالة في عهده زاد من سخط العلماء عليه وأثار الفتن ضد دولته. كما أن ممارسات علاء الدولة حاكم طهران غير المحسوبة العواقب في معاقبة مجموعة من تجار بازار طهران كان سبباً في إغلاق البازار وتجمهر المعارضين لهذا الصنيع في مسجد "شاه طهران". وقد أثار دعم عين الدولة لما قام به علاء الدولة غضب الشعب وثورته. وانتهى الأمر بالمعارضين إلى تعطيل البازار والتحصن في زاوية "حضرة عبد العظيم"، ولحق بهم مجموعة من طلاب المدارس والعلماء والوعاظ. كانت مطالبهم تتلخص منذ البداية في عزل مستشار الجمارك البلجيكي مسيو نوز الذي كان معروفاً بعنجهيته وإهانته للباس رجال الدين (الروحانيون)، وعزل حاكم طهران علاء الدولة وتأسيس "دار العدالة" الحكومية – الذي كان يُقصد بها دار الشورى الوطنية التي تُعنى بوضع القوانين والإشراف على التطبيق الصحيح للقانون.
   لكن وجود مكتوب الشاه الخطي الذي يقضي بتأسيس "دار العدالة" وتكليف عين الدولة بإجرائه لم يوقف صراع الدولة مع المتحصنين. وأُوقف بعض الوعاظ الذين كانوا يحركون الشعب في مطالبته بدار العدالة والقانون ونُفي بعضهم الآخر. وفي خضم هذا التجاذب بين الحكومة والمعارضة قُتل أحد الطلبة على يد جنود عين الدولة، وعلى إثر ذلك انطلقت التظاهرات فأُغلقت البازارات وتجمع المتظاهرون في المساجد للترحم على الطالب القتيل، فحاصرت قوات الأمن المساجد وأطلقت النيران وقتلت العديد منهم. وفي اليوم التالي توجه العلماء إلى مدينة قم وهددوا الدولة بمغادرة إيران إلى الخارج. أعقب دلك حالة من الفوضى والهرج اضطر على إثره المطالبون بدار العدالة إلى اللجوء إلى السفارة البريطانية في طهران والتحصن بها. ويوماً بعد يوم ارتفع عدد المتحصنين بها حتى وصل إلى ثلاثة عشر ألفاً، وطالبوا لأجل إخلاء السفارة البريطانية بتحقيق مطالبهم المتمثلة في : عزل عين الدولة وعودة العلماء إلى طهران وافتتاح دار الشورى _ أي دار العدالة_ بالحكم على القتلة في الحوادث الأخيرة بالقصاص وعودة المنفيين وإطلاق سراح المعتقلين في الأحداث الأخيرة.
    تزامناً مع هذه الأحداث بادر مجموعة من علماء مدينة تبريز إلى ترغيب ولي العهد محمد على ميرزا الذي لم تكن تربطه علاقة طيبة بعين الدولة في التوسط لإرجاع العلماء إلى طهران وتلبية مطالب المتحصنين. من جهة أخرى ومع ارتفاع عدد المتحصنين إلى أكثر من أربعة عشر ألفاً وبفعل الضغوط التي مارستها السفارة البريطانية على الشاه، اضطر عين الدولة إلى الانسحاب والاستقالة. وعُين وزير خارجية حكومته ميرزا نصر الله خان مشير الدولة في مكانه، وأرسل الشاه من حاشيته من يستميل العلماء ويرغبهم بالعودة إلى طهران، كما أصدر مرسومين متوالين (14 و 16 جمادى الثانية 1324 ق) يقضيان بتأسيس "مجلس الشورى الوطني" الذي يضم "منتخبي الدولة" بقصد "المشاورة والتدقيق" في "مهام وشؤون الدولة والمملكة والمصالح العامة". مما أدى إلى انتصار نهضة المطالبين بالعدالة والقانون وخروج المتحصنين من السفارة. ورغم التضييقات التي مارسها رجال القصر فيما بعد فإن "القانون المنظم للانتخابات" وُضع وصودق عليه (رجب 1324ق).
وفي الأخير وبانتخاب ستين وكيلاً من طهران انعقد أول مجلس – والذي كان في أساسه مجلساً ثورياً بصلاحيات مجلس المؤسسين والمقننين _ بدون حضور النواب المنتخبين في المحافظات الأخرى، وكان ذلك في قصر "ﮔلستان" بحضور الشاه بتاريخ (17 شعبان 1324ق).
 لكن الانتخابات في باقي الولايات والمحافظات تأخرت بسبب عدم رغبة الدولة و بسبب مضايقات المعارضين للمشروطة، ولم يلتحق أحدٌ من منتخبي المحافظات بطهران لمدة طويلة. مع ذلك فقد وُضع القانون الأساسي في 52 مادة وصودق عليه من طرف المجلس، ووقع عليه الشاه في وقت متأخر جداً (14 ذو القعدة) بسبب تماطل رجاله، وبعد أسبوع واحد من التوقيع (23 ذو القعدة) توفي الشاه.
 تولى الحكم بعده نجله محمد علي ميرزا الذي اتخذ لنفسه اسم علي شاه ، وبخلاف تظاهره في عهد صدارة عين الدولة بتعاطفه مع هذا التيار، ناصب محمد علي شاه المجلس العداء مند بداية ملكيته. وفي مراسم جلوسه على العرش كلف وزراءه بمعاداة المجلس ومعارضته. فتعرض أساس "دار الشورى" و"دار العدالة" للتزلزل مدة معينة، لكن تأسيس الجمعيات في طهران وكل أنحاء المملكة أدى بشكل تدريجي إلى رفع هدا التزلزل، وردعت الفتن التي اشتعلت في تبريز لدعم المجلس و تقويته (21 دو الحجة 1324ق) رجال القصر وأثنتهم عن استمرارهم في معارضة المجلس. وأُجبر الشاه على إصدار مكتوب يقضي بقبوله للمشروطة[1].وأكمل المجلس في الأخير تتمة القانون الأساسي في 107 مادة والتي كانت في الواقع تتمة أساس المشروطة وصادق عليه. وهكذا صادق المجلس الأول على مبدأ تفكيك السلط الثلاثة للمملكة – التي ما كان لدار العدالة أن تؤسس بدونها- قام المجلس بتعديل ميزانية الدولة وإصلاحها، وأسس في إيران "البنك الوطني" كما حدد مداخيل أقرباء الشاه، وحدد أيضاً راتباً مناسباً للشاه.
أدى دلك إلى إثارة حقد الشاه وحنقه على المجلس، وبتحريك منه تجمع معارضو المشروطة – الذين كان دافع بعضهم أغراض ومصالح شخصية محضة- في ساحة "توبخانه" بطهران. فتصاعدت الأمور والتظاهرات والفتن وتعرض المجلس وأصحاب المشروطة لتهديد الأشرار، لكن الشاه سيضطر إلى التسليم تحت ضغط مقاومة مؤيدي المشروطة وصلابتهم. وانتهت هذه الفتنة –أو بتعبير المؤرخين- هذا الانقلاب العقيم دون وقوع حوادث شديدة (ذو القعدة 1325ق). لكن بعد مدة وبسبب تعرض سيارة الشاه لتفجير قنبلة دون أن يصاب بأذى (محرم 1326ق) قرر إغلاق المجلس وهدمه. وأيد الشاه في هذا القرار بعض رجال قصره وعدد من العلماء المعارضين للمشروطة. فتحصن في المجلس نفر من رؤساء المشروطة أمثال ملك المتكلمين وميرزا جهاﻧﮕير خان شيرازي وسيد جمال اصفهاني. نصب الشاه القائد الروسي ليافوف على رأس الحكومة العسكرية في طهران. وبعد عدة أسابيع من الصراع والتجاذب وتبادل الرسائل بين الشاه والمجلس، حاصر جنود الشاه المجلس ثم قصفوه بالمدفعية (22 جمادى الأولى 1326ق). كما تعرضت منازل مجموعة من الأشخاص كانت مجاورة للمجلس للقصف والدمار أو النهب. وقُتل عدد آخر من أمثال ميرزا ابراهيم آقا وكيل تبريز، وأُسر عددٌ آخر كـميرزا جهاﻧﮕير خان شيرازي مدير الصحيفة المعروفة "صور إسرافيل" وملك المتكلمين واعظ، ثم قتلوا بعد ذلك في بستان الشاه بأمره. كما تحصن عددٌ آخر في سفارات بريطانيا وفرنسا أو سفارات أخرى واختفى عددٌ آخر.
 وهكذا حل الشاه المجلس وهدمه. وتم إحياء استبداد القاجاريين ثانية، ولأنه استمر أكثر من سنة واحدة سُمي بـ "الاستبداد الصغير" . وقد قوبل هذا الاستبداد الذي استمر بنفس العنف السابق في طهران بالرفض والمعارضة في محافظات أخرى. فقامت تبريز بمجاهديها ضده. وهنا يبرز اسم ستارخان وباقرخان اللذان أدارا هذه المواجهة بشجاعة. أما في أصفهان فقد أبدى البختياريون رد فعل قوي. وفي كيلان ثار الشعب كله، وكذلك في العديد من المدن الأخرى كمشهد واسترآباد. فيما حرم علماء النجف أداء الضرائب لهذه الدولة. ففكر الشاه بتأسيس مجلس تحت اسم "مجلس الشورى الحكومي" وكان هذا يعني في الواقع تغيير القانون الأساسي الذي لا يمكن أن يقبل به ممثلي الشعب. وفي الأخير ومع قيام البختياريين في أصفهان (ذو الحجة 1326ق) وقيام مجاهدي كيلان (محرم 1327ق) اتخذت مقاومة الشعب لاستبداد الشاه شكلاً قاطعاً. دخلت جيوش مجاهدي الشمال برئاسة ﺳﭘهسالار تنكابنى والمجاهدون البختياريون بقيادة القائد اسعد بختيارى إلى طهران بتاريخ 27 جمادى الثانية 1327ق. ثم وَجَد محمد علي شاه – الذي لم يقدر على المقاومة- نفسه مضطراً للتحصن في السفارة الروسية في منطقة شميران. وبمجرد فتح طهران على يد الوطنيين تجمع في عمارة "بهارستان" عدد من نواب الدورة الأولى إضافة إلى الوزراء المستقيلين والمجتهدين وعدد من التجار ورؤساء النقابات، فعين المجلس هؤلاء بصفتهم اللجنة العليا لخلع الشاه محمد علي شاه وتنصيب نجله اليافع أحمد ميرزا على رأس السلطة. وانتُخب عضد الملك –رئيس أسرة القاجاريين- الذي كان له صلة مند بداية النهضة بالمطالبين بالمجلس ودار العدالة، نائباً للملك. وهكذا تسلم رؤساء المجاهدين السلطة ووصلوا إلى  النفوذ، فعُين ﺳﭘهسالار تنكابنى وزيراً للحرب والجنرال اسعد وزيراً للداخلية وباقي معاونيهم وزراء في الحكومة. مع نهاية الاستبداد الصغير انتهت أيضاً الحكومة العسكرية، فحررت الصحف وأُعيد المبعدون و أوقف أو نُفي معارضو المشروطة وحوكم البعض الآخر منهم. ثم أُعلنت الانتخابات وأُجريت بسرعة. وهكذا تشكل المجلس الثاني في طهران بعد خلع الشاه المستبد مباشرة (ذو القعدة 1327ق). وفي هذا المجلس تم تكريم مجاهدي الانقلاب كـ يفرم ارمنى من قادة مجاهدي كيلان، عُين مسؤولاً عن "النظمية"، كما تم تكريم مجاهدي تبريز ومقاوميهم بإعطاء لقب سردار ملى" (القائد الوطني) لستارخان ولقب "سالار ملى" (السيد الوطني) لباقرخان. واختير أخ الشاه محمد حسن ميرزا ولياً للعهد.
وتأسس في المجلس حزبان : الحزب الاعتدالي والحزب الاجتماعي (الديموقراطي). وأوجد فضاء مناسب جديد لممارسة الديموقراطية، واتضح مفهوم المشروطة لعدد من النواب والممثلين الدين لم يدركوا معناها لحد تلك الساعة، وبرزت على الساحة المواجهات الحزبية والاختلافات الشخصية بشكل تدريجي.
 وهكذا انتهت إثارة الثورة الدستورية، لكن هذه الثورة التي تحققت كانت قابلة للانكسار والتضرر مع وجود ملك صغير السن وقصر متزلزل وخصوصاً في ظل وجود خلافات بين القادة والتي وصلت إلى حد اغتيال سيد عبد الله بهبهانى (رجب 1328ق)، ونفي بعض المتعصبين الديموقراط إلى الخارج (جمادى الثانية 1327ق) وكذلك في مقابل التحريضات الدائمة للروس والإنجليز وتدخلهم في الشؤون الجارية وسعيهم لإرجاع محمد علي شاه (شعبان 1329ق)، وكذلك وجود مشاكل كثيرة متعلقة بالسياسة الخارجية والداخلية. ففي ظل هذه الظروف لم يكن بقاء الهوية الحقيقية للمشروطة مضموناً. لا يتسع المجال لشرح تفاصيل هذه الأوضاع وفي التطويل في شرح مقدمات النهضة. لكن هذه الإشارات المجملة ترصد توالي الأحداث اللاحقة وفي نفس الوقت تؤدي إلى درك وتقييم انعكاس هده الأحداث في أدب إيران في نهاية العهد القاجاري كما ينبغي ككشف الغطاء عن أهمية دور كتاب وشعراء هذه الفترة في صحوة الأذهان وفي إفشاء الأسرار التي أدى عدم الانتباه إليها إلى توقف عجلة تطور هده النهضة. وواضح أن من بين كتاب الصحف والشعراء والخطباء الذين برزوا في هدا العصر صنعوا لأنفسهم أمجاداً وذكرى خالدة لا تُنسى، نذكر من بينهم : ميرزا على أكبر خان دهخدا، وميرزا جهاﻧﮕير خان "صور إسرافيل"، وسيد جمال الدين واعظ، وملك المتكلمين اصفهانى، وسيد حسن تقى زاده، ومحمد أمين رسول زاده، وأديب الممالك فراهانى، ومحمد تقى بهار ملك الشعراء و ...




[1]  إن إصدار منشور "المشروطة" من طرف مظفر الدين شاه، و وفاته المفاجئة بعد مدة وجيزة من صدور المنشور ترك في أذهان الأجيال التالية انطباعاً طيباً شيئاً ما عن هدا الملك. "عدل مظفر" هدا الاسم الذي بات بمثابة تاريخ المنشور و مادة لتاريخ وفاة الشاه، يمثل في الحقيقة نهاية عهد استبداد مليء بالفوضى كان يشمل فترة ملكيته القصيرة. كانت ملكيته استمراراً لنفس استبداد العهد الناصري، لكنها كانت تفتقد لسلطته و صلابته. إن شخصيته الضعيفة و أسلوبه الخاص في الحياة لم يكونا في مستوى الانطباع الطيب الذي اقترن "عدل مظفر" باسمه. نقل روايات مخزية و مذلة عن حياته الخاصة كانت تدل على انحطاط القصر القاجاري. يمكن الرجوع إلى ما نقلته أخته تاج الدولة في هدا الباب و إلى جزء من أسرار أحوال و أوضاع أسرته : خاطرات تاج الدولة (ذكريات تاج الدولة) باهتمام منصوره اتحاديه 136\2 ، 2\71 و كذلك 1\53-89. يقارن ذلك بما جاء في تاريخ غفاري ، و هي خواطر محمد على غفاري النائب الأول لخادم الشاه. أدى ضعف هدا الملك إلى إطلاق يد حكامه و عماله لممارسة أشد القمع في حق الشعب لمدة طويلة. كان هؤلاء العمال و الحكام المستبدين الدين رافقوا الشاه من تبريز إلى طهران بسبب جهلهم و سذاجتهم غالباً موضوع التنكيت و التمثيل لدى ظرفاء طهران. كما كانت هناك أناشيد عامية فيها إهانة و تحقير للشاه نفسه يرددها أطفال المدينة. للإطلاع على الجزئيات راجع : عبد الله مستوفى، زندكانى من، 2\10، و أيضاً : ص 45،41. و قد كان أخوه ظل السلطان المعارض و المنافس له وراء نشر جزء من تلك الشائعات المخزية. يمكن درك ضعف شخصية الشاه و سذاجته و ميوعته أيضاً فيما جاء في كتاب سفرنامه خراسان لميرزا علينقي حكيم الملك، الطبعة الحجرية، ص: 180-170. كان يتجلى هدا الضعف بوضوح في أسفاره إلى أوروبا رفقة حاشيته. يمكن الإطلاع على دلك في تقرير المضيف و مسؤول التشريفات في الدولة الفرنسية آنذاك  كزاويه باولى و الذي نشره في كتاب بعنوان اعليحضرت ها ، راجع: عباس إقبال، مجله "يادكار"، السنة الأولى، 1\40-13.      

رواد الكتابة القصصية الجديدة في إيران (د/ تورج راهنما - ترجمة : د/ أحمد موسى)

يعتبر انتشار مجموعة "يكى بود يكى نبود" [كان يا ما كان] سنة 1921، أهم حدث في تاريخ الأدب الإيراني المعاصر. تكمن أهمية هذه المجموعة في أن محمد على جمالزاده أدخل القصة القصيرة بمعناها المعاصر لأول مرة في نطاق الأدب الفارسي. لكن إذا كان الكاتب في هذه المجموعة استعار بعضاً من أبنية القصة القصيرة من الغرب، فإنه لم يتخل كلياً عن تاريخ القصة الإيرانية القديمة. ولعل سر جمالية "يكى بود يكى نبود" يكمن في هذا التلفيق.
  تشتمل مجموعة "يكى بود يكى نبود" على ستة قصص، أجملها بدون شك قصة "درد دل ملاّ قربانعلى". "قارئ الروضة" هو الشخصية الرئيسية في القصة، سيقع يوماً على إثر حادثة غير مرتقبة في حبال حب فتاة جميلة، لكن المرض سيلازمه. وهذا الحب لا فائدة منه لأن الملاّ قربانعلى شيخ هرم وهو متزوج، ويعلم ألا طاقة له لوصال معشوقته. لكن حبه للفتاة يكبر يوماً بعد يوم، حتى بات الرجل مريضاً وتخلى عن عمله وأصبح مديوناً، ولسوء طالعه سوف لن تتوقف متاعبه عند هذا الحد. لأنه سينهار تماماً مع وفاة معشوقته.
 يبتدئ جمال زاده القصة في "درد دل ملا قربانعلى" بنوع من الاستطراد. ففي البداية يجيب بطل القصة على سؤال مخاطبه الافتراضي معرفاً بنفسه، ثم يحكي سيرته : "اسم المدعي ؟ الأحقر قربانعلى. ما عملي ؟ ذاكر سيد الشهدا...".
 هذا الأسلوب في الاستطراد وتهييء الأرضية هو أسلوب جديد تعلمه جمالزاده من القصة الغربية، لكن إفادته الذكية منه هي محصلة ذوقه الفني.
 تمتاز قصة "درد دل ملاّ قربانعلى" ببنائها الرصين ولغتها الجميلة. لكن مضمونها الذي يمتاز بخصوصيات القصة القصيرة الجديدة مسبوق في الأدب الإيراني القديم. فهيام شيخ هرم بفتاة شابة يحيل القارئ على الفور إلى حكاية شيخ صنعان في كتاب "منطق الطير". لكن مهارة جمالزاده تتجلى في تحويل تراجيديا صوفي زاهد في القرون الماضية إلى تراجيديا هزلية لـ"قارئ الروضة" في عصرنا، متوسلا في ذلك بلغة محشوة بالنقد الساخر.
النقد الساخر (طنز) الذي استعمله جمال زاده في هذه القصة خفي ومستتر لا نجد له مثيلاً في بقية آثاره.
استعمل هذا النقد في خلق شخصية الملاّ قربانعلى كما استخدم في لغته. بتعبير آخر، فمن ناحية، فإن الملاّ قربانعلى بحكم منزلته الاجتماعية الخاصة لا ينبغي أن يفكر أثناء عمله في غير ذكر مصيبة الأولياء، لكنه يفكر في فتاة فاتنة، ومن ناحية أخرى فإن قصة حياته التي هي في الأصل محزنة، تدعو القارئ إلى الانبساط والمرح بسبب طريقة كلامه وبيانه. ما من شك في أن الجمل المكررة التي يستخدمها الملاّ قربانعلى أثناء حديثه عن سيرته تؤثر في خلق مثل هذه الحالة.
 نقد جمالزاده على خلاف نقد صادق هدايت ليس معقداً وعميقاً، إنما هو صريح وواضح وجميل. ومثل هذا النقد الذي ناذراً ما يكون لاذعاً وقاسياً نعثر عليه بكل بساطة في أكثر قصص "يكى بود يكى نبود". بيد أن هذه المجموعة تشتمل على قصتين لا وجود فيهما لطبع الكاتب المرح، وهما "دوستى خاله خرسه" و"ويلان الدوله". ونظرة سريعة إلى إحدى هاتين القصتين تكشف لنا جانبا آخر من أسلوب الكتابة القصصية لدى جمالزاده.
"دوستى خاله خرسه" قصة ممتعة نلحظ فيها تقابلاً قبيحاً للخير والشر والغنى والطمع. ففي جانب يقف حبيب الله، وهو شاب إيراني لطيف وكريم. ويقابله في الجانب الآخر عسكري روسي طماع قذر.   
 تتميز لغة جمالزاده بالبساطة والسلاسة، ويستعمل كثيراً المصطلحات والأمثال العامية. وأحياناً يكثر الكلام، مستخدماً جملا طويلة تأخذ النفس، كما يستخدم أيضاً المترادفات بكثرة. كما أننا لا نعدم في لغته الأوصاف الجميلة والممتعة، وقصة "دوستى خاله خرسه" خير مثال على هذا الأمر.
أغلب شخصيات جمالزاده هي من العوام. أكثر قصص الكاتب تنبني على التضاد بين الشخصيات وسلوكها، ونلاحظ هذا الأمر أكثر حدة في قصتي "دوستى خاله خرسه" و"فارسى شكر است".
تدور مضامين أغلب قصص جمالزاده في فلك محاربة الخرافات والجهل والظلم الاجتماعي. هدف الكاتب ليس محض خلق الترف، بل دفع القارئ في الوهلة الأولى للتفكير والتعلم. هذه الميزات تجعل من أعماله الأولى، ومن جملة ذلك "درد دل ملاّ قربانعلى" من بين أفضل القصص القصيرة الفارسية.
 لقد غاب جمالزاده عن الساحة بعد نشره مجموعة "يكى بود يكى نبود" مدة تفوق العشرين سنة. بعد سنة 1941، سينشر أول أثر له تحت عنوان "عمو حسنعلى". لكن عدد القصص الجيدة في هذه المجموعة أو في المجموعات الأخرى التالية قليل.
 بصدور مجموعة "يكى بود يكى نبود" سنة 1921 لم يبدأ فصل جديد في تاريخ الأدب الإيراني فحسب، بل حصلت تغييرات كبيرة في التاريخ الاجتماعي للإيرانيين. فخلال هذه السنة سيتولى رضا خان زمام الأمور في إيران وسيؤسس السلسلة البهلوية أربع سنوات بعد ذلك.
 بدأ عهد حكومة رضا شاه بالاختناق السياسي. لذلك لا نستغرب عزوف العديد من الأدباء والفنانين عن النشاط الأدبي. ورغم ذلك فإن هذه المرحلة شهدت ظهور كاتبين كبيرين ساهمت آثارهما وكتاباتهما في تطور فن القصة القصيرة في إيران بشكل مؤثر، وهما صادق هدايت وبزرﮒ علوى.
  يعتبر صادق هدايت المؤسس الفعلي للقصة القصيرة في إيران. فهو أول من أدخل صنعة الكتابة القصصية الغربية إلى الأدب الفارسي، وبإفادته منها خلق آثاراً تعد بعضها من روائع الأدب القصصي المعاصر. جُمعت قصص هدايت في ثلاث مجموعات : "زنده ﺑه ﮕور" و"سه قطره خون" و"ﺳﮓ وﻟﮕرد"، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :
1.                 القصص التي يرتبط موضوعها بالعهود الماضية، وأكثر شخصياتها أبطال تاريخيون.
2.                 القصص التي لها طابع نفسي وفضاء تخيلى.
3.                 القصص التي تتناول حياة ومصير الشعب الذي يقبع في طبقات سفلى من المجتمع.
عدد قصص القسمين الأول والثاني قليل، وتعتبر من القصص الرفيعة للكاتب. لكن روائع هدايت توجد في القسم الثالث.
 ففي هذه القصص نواجه أناساً مختلفين من طبقات اجتماعية سفلى. فشخصيات من مثل داش آكل وكاكا رستم وﮔل ببو وزرين كلاه وميرزا يد الله ومشهدى شهباز هي من نفس طبقة علويه خانم وآقا موﭼول وعصمت سادات وصغرا سلطان ومنيجه خانم. صاديق هدايت بارع في تصوير حياة هذه الشخصيات ومصيرها ومعنوياتها لدرجة ينسى فيها القارئ أحياناً أن هذه الشخصيات هي من وحي خيال المؤلف ليس إلا.
 نذكر من بين هذه الشخصيات بطل قصة "داش آكُل". فـداش آكل متشرد شهم يعرفه أهل شيراز كلهم ويحبونه، لأنه يقف إلى جانبهم. لكن حياته الهادئة سوف تهتز على إثر حادثة موت أحد أقربائه وهو حاجى صمد ووصيته له بتحمل مسؤولية أسرته. من هنا ستتغير حياة المتشرد، وسينتظم حاله ويترك أصدقاءه ويصرف وقته في رعاية بيت حاجى وحراسة أملاكه. لكن في هذا الخضم سيقع حدث آخر سيقلب حياته الداخلية. فداش آكل الرجل المتوسط العمر سيسقط في شباك حب بنت حاجى الجميلة واليافعة، لكنه لن يفصح لها عن حبه وسيبقى متحملا عبأه، وحينما ستشتد عليه وطأة هذا الحب سيلجأ إلى معاقرة الخمرة، ويفشي همومه لنفسه ولببغائه الذي يشاركه خلواته الليلية.
سيستمر هذا الوضع مدة خمس سنوات إلى أن يكبر أبناء حاجي ويبلغون سن الرشد. حينها ينتهي عمل داش آكل، في ليلة يسلم الأمانات إليهم ويودعهم و يعود إلى حيه الأول، وهناك يلتقي بمنافسه القديم كاكا رستم، هذا الأخير سيستغل الوضع ويتهكم من داش آكل، سيتطور الوضع وينشب بينهما شجار ينتهي بوفاة داش آكل.
 "داش آكل" قصة جذابة وممتعة لا من حيث الموضوع فقط، بل من حيث الشخصيات والفضاء واللغة فهي أيضاً نسيج وحدها.
 في قصة "زنى كه مردش را ﮔم كرده" يتجه هدايت صوب ناحية أخرى من إيران، ويعرفنا بأناس آخرين، ﮔل ببو فلاح مازندراني، لا يملك شهامة داش آكل ولا عوالمه العاطفية، بل على العكس، هو شخص بلا إحساس ولا عاطفة يوسع زوجته ضرباً ويتخلى عنها في نهاية المطاف ويتزوج بأخرى. لكن زرين كلاه تحب زوجها وليست مستعدة للتخلي عنه ببساطة، لذلك اصطحبت طفلها الصغير وسافرت إلى مازندران باحثة عن زوجها. لكن سعيها بقي دون جدوى، فـﮔل ببو لن يعود.
بالرغم من أن زرين كلاه امرأة سيئة الطالع، لكنها مع ذلك تظل واحدة من بين أحب الشخصيات النسائية في أعمال صادق هدايت. في حين أن النساء الأخريات لا يحظين بمثل هذا الامتياز. فهن في الغالب نساء قذرات ومسلطات ومخادعات وحاسدات. والمثال البارز لهذه النساء هي ربابه في قصة "محلل"، يطلق ميرزا يد الله، زوجته ربابه طلاق الثلاث بسبب قبح سجيتها وفساد أخلاقها، لكنه يندم على ذلك ويرغب باسترجاعها، فلا حل له سوى الاستعانة بمحلل، لذا يعثر على "بقال الدﻧﮓ ﭘفيوزى" الذي وافق على الزواج من ربابه مقابل خمسة تومانات، لكن هذا الأخير سوف يتنصل من عهده بعد إبرام عقد الزواج، ويعلن بدون أدنى خجل " زنم است، يك مويش را نمي دهم هزار تومان بگيرم!" (إنها زوجتي ولن أستبدل شعرة منها بألف تومان) لكن ربابه لن تبقى وفية لزوجها الثاني، وستنفصل عنه أيضاً.
  الشخصيات النسائية عند صادق هدايت لا علاقة لها بالحب في الغالب الأعم، بل هي حبيسة غرائزها فقط. وهذا لا يصدق فقط على "زرين كلاه" (زنى كه مردش را ﮔم كرده)، بل يخص كل آثار هدايت. بتعبير آخر، فإن ما يردده أبطال قصص هدايت حول الحب ،هو بلا شك كلام الكاتب نفسه : «عشق مثل يك آواز دور، يك نغمه دلگير و افسونگر است كه آدم زشت و بد منظري مي خواند نبايد دنبال او رفت» (الحب بمثابة صوت بعيد ونغمة جذابة وساحرة تدعو الإنسان القبيح إليها، لذا لا ينبغي السعي وراءها)، لذلك فمن الطبيعي أن ينهزم الحب دائماً في آثار هدايت، ولعل قصص "داوود ﮔوﮊ ﭘشت" و"لاله" و"آينه شكسته" و"ﮔرداب" و"صورتك ها" و"عروسك ﭘشت ﭘرده" وقصص أخرى كثيرة تؤيد هذا الطرح.
 أبطال صادق هدايت ليسوا دائماً بشراً. ففي "سگ ولگرد" يصف المصير الحزين لكلب اسكتلندي تاه في خربة بضواحي "ورامين"، فهلك من شدة بحثه هنا وهناك. قلما نعثر على فكر متشائم ورؤية فلسفية لمفهوم الحياة ومصير الإنسان لدى هدايت في بقية آثاره بالقدر الذي نلمسه في هذه القصة. لعل هدايت يُظهر في هذه القصة نفس الرأي الذي عبّر عنه حافظ الشيرازي قبله بستمائة سنة :
من ملك بودم و فردوس برين جايم بود      آدم آورد در اين ملك خراب آبادم
(أنا كنت ملاكاً والفردوس الأعلى كان مكاني، حتى جاء بي آدم إلى هذا الملك الخرب).
وفي الأصل فإن الاستسلام للقدر هو أحد خصوصيات شخصيات هدايت. فإذا كان الكلب في هذه القصة وزرين كلاه في القصة الأخرى يسعيان إلى قلب أوضاعهما، فهما مجرد استثنائين.
  علاوة على الشخصيات ففي قصص هدايت يتميز الزمان والمكان بالتنوع أيضاً، فالكاتب لا يذهب فقط إلى البيوت المتواضعة والغرف المظلمة والمقاهي العتيقة والفنادق الخربة، بل إنه أحياناً يطل على بيوت أصحاب الدولة والأثرياء الجليلة، وأحياناً يقيم في دور الضيافة في باريس، وأحياناً يسافر إلى الماضي وحيناً إلى المستقبل أيضاً. مع هدايت يمكن مشاهدة آخر ابتسامة لبودا مع بداية قوة العرب..
 لغة صادق هدايت بسيطة وخالية من المحسنات، لكنها مليئة بالمصطلحات والأمثال السوقية والعامية. وإذا كان نثره يخلو من تراكيب وعبارات نثر جمالزاده، فإنه مع ذلك يتوفر أحياناً على نقده الساخر (طنز). لكن هذا النقد الساخر هو خاص بهدايت، وهو نقد خفي ولاذع وجارح.
  أما الكاتب القصصي الآخر الذي بدأ فعالياته الأدبية في العقد الأول من هذا القرن هو بزرگ علوي. يمكن تقسيم آثاره القصصية إلى ثلاث مراحل. في المرحلة الأولى التي تمتد إلى سنة 1941 ألَّف بزرﮒ علوي قصصاً جُمعت في مجموعة "چمدان". ومن سنة 1941 إلى سنة 1954 نشر بزرك علوي آثاراً اشتهر بها في الساحة الأدبية ككاتب ملتزم. أما آخر آثاره القصصية فترجع إلى فترة بُعده عن إيران وعيشه في ألمانيا.
 "چمدان" أول مجموعة قصصية لبزرك علوي نُشرت سنة 1934. تبدو في هذا العمل رغبة الكاتب في طرح قضايا روحية عميقة، وفي ذلك تأثر واضح بأسلوب كتّاب من أمثال «آرتور شنيتسلر» و«اشتفان تسوايگ». وأفضل قصص هذه المجموعة "سرباز سربى" تؤيد هذه المقولة.
 في المرحلة الثانية يصل علوي إلى درجة من الاستقرار الفني ويؤلف قصصاً بديعة سواء من حيث المحتوى أو من حيث البناء. ففي هذه الآثار لا وجود للأشخاص (سوايى) السابقين، بل على العكس، أبطاله شجعان وغير مستسلمين يقاومون المظالم والاختلالات الاجتماعية، وتعتبر قصة "گيله مرد" خير مثال على هذه الآثار.
  أما في المرحلة الثالثة فيبدو بزرﮒ علوي ممتعضاً من التحولات السياسية في وطنه، فيؤلف قصصاً يصف فيها بشكل مركز حياة الفارين السياسيين ومصيرهم، فإذا كان أبطاله في عقد العشرينيات أشخاصاً مقاومين وصامدين فإنهم اليوم أشخاص ضعفاء وممتعضون ومهمومون يقفون أمام الحوادث عاجزين صامتين ولا يبدون أي رد فعل.
«گيله مرد» هي أفضل قصص علوي من دون شك. تعود أحداث هذه القصة إلى زمان كان فيه رجال الدرك يسافرون إلى قرى الشمال الإيراني لأخذ ضريبة الملك، فينهبون حياة "گيله مرد". لكن الفلاحين لن يقفوا مكتوفي الأيدي، بل سيقاومون بكل شجاعة. يتعرف القارئ في البدء على شخصيات القصة الأساسية : الشخصية الأولى «گيله مرد» والثانية رجلا أمن مسلحان سيقتادانه إلى "فومن" للتحقيق معه. «گيله مرد» قروي شجاع، التجأ رفقة عدد من الفلاحين إلى الغابة، وحينما كان يزور عائلته متخفياً قُبض عليه، أما رجل الأمن الأول يدعى محمد ولي وهو شجاع في الظاهر، لكنه في الباطن جد جبان، يؤذي دائماً «گيله مرد» بكلامه الجارح. أما رجل الأمن الثاني فرجل بلوشي لا يفكر سوى في جمع المال والفرار إلى مسقط رأسه. لكن «گيله مرد» بماذا يفكر ؟ هو يترصد حاملا مسدس في يده استبدله بمبلغ مالي مع رجل الأمن البلوشي، طريق محمد ولي لينتزع منه سلاحه ويلوذ بالفرار. لكن حين تطبيق خطته «صداي تيري شنيده شد و گلوله اي به بازوي راست گيله مرد اصابت كرد. هنوز برنگشته بود، گلوله ديگري به سينه او خورد و او را از بالاي ايوان سرنگون ساخت. مأمور بلوچ كار خود را كرد"
(سُمع صوت إطلاق الرصاص، فأصابت رصاصة الركبة اليمنى للرجل الجيلي. و ما فتئ أن يعود حتى أصيب بطلقة أخرى في صدره أدرته قتيلاً، لقد فعل المأمور البلوشي فعلته).      
 «گيله مرد» قصة جد مؤثرة، فعلاوة على موضوعها وشخصياتها الجذابة، فضاؤها يتميز بإتقان لا مثيل له. القصة منذ الوهلة الأولى تدور في فضاء يلفه القلق "باران هنگامه كرده بود. باد چنگ مى انداخت و مى خواست زمين را از جا بكند. درختان كهن به جاى يكديگر افتاده بودند. از جنگل صداى شيون زنى كه زجر مى كشيد مى آمد".
(كانت الأمطار قد بدأت في الهطول. كانت الرياح تلقي بمخالبها وكأنها تريد أن تقتلع الأرض من مكانها. الأشجار القديمة تقاتل بعضها بعضاً. كان يُسمع من الغابة صوت عويل امرأة تعاني).
يريد علوي من وراء وصف الطبيعة الغاضبة والمتقلبة أن يين الاضطرابات الروحية لشخصيات القصة، فيوجه القارئ منذ الوهلة الأولى وبشكل غير مباشر نحو فضاء قصته، فضاء يبقى ثابتاً حتى نهايتها.
 الشخصيات النسائية عند علوي أكثر تميّزاً، ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أنه لا وجود لكاتب آخر غير علوي وصف في أعماله شوق النساء وذكاءهن وفتنتهم من ناحية، ورسم من ناحية أخرى صوراً لوفائهن وعفتهن وحنانهن. ونلاحظ بالخصوص تعدد شخصيات قصص المرحلة الثانية وهذا يدل على الاحترام الكبير الذي يكنه الكاتب لنساء وطنه.
  لغة بزرﮒ علوي بسيطة وواضحة وخالية من المحسنات، لكنها تفتقد إلى غنى لغة صادق هدايت وجاذبيتها. في المقابل يمتاز بزرﮒ علوي بقوة مخيلته في إيجاد العناصر التي تضفي على قصصه طابع القصص البوليسية.
 تزامنت بداية المرحلة الثانية لفعاليات علوي مع السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية والتحولات الاجتماعية الكبيرة في إيران. ويكمن السبب الرئيسي لهذه التحولات في دخول قوات الحلفاء إلى إيران في شهر شتنبر من سنة 1941، سنة اعتزال رضا شاه وبداية حكومة الشاه الجديد. سيعرف هذا العهد مرحلة جديدة في الحياة الفنية للأدباء الإيرانيين، إذ بعد سنوات من الإعتزال يعودون مرة أخرى لاستئناف فعالياتهم الأدبية. لكن هذه الفترة هي الأخرى لم تدم طويلاً، فبعد سقوط حكومة مصدق في شهر غشت سنة 1953 سيبدأ عهد الإختناق من جديد.
  من بين الكتاب والأدباء الذين بدأوا بالتأليف بعد سنة 1941 يجب أن نذكر اسم صادق چوبك. نُشرت أول مجموعة قصصية له تحت عنوان «خيمه شب بازي» سنة 1945، ثم بعد أبع سنوات نُشرت مجموعته الأخرى «اَنتري كه لوطي اش مرده بود». لقد لاقت قصصه صدى طيباً في الأوساط النقدية وقوبلت بترحاب كبير، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أنه كاتب كبير بصم اسمه على ساحة الأدب الإيراني المعاصر بكل جدارة. تشتمل المجموعتان المذكورتان من ناحية على قصص تذكِّرنا بأسلوب الكتابة القصصية لهدايت، ومن ناحية أخرى تضم آثاراً صغيرة الحجم تشبه الصورة الفورية. هذه الآثار التي تذكِّرنا بالقصص القصيرة والمعاصرة الأمريكة، لم يكن لها سابقة في الأدب الفارسي إلى حدود ذلك الوقت. قصة "عدل" هي إحدى أفضل تلك القصص، لها محتوى جد بسيط، وهو وصف لفرس سقط في جدول ماء فتكسرت رجله. يرى صادق چوبك مصير أبناء وطنه في هيئة حصان مظلوم لكنه لا يئن أبداً، يتحملون كل شيء بصبر كبير ودون أن يتفوهوا بشئ. يتكرر هذا المضمون كذلك في قصة "قفس". القفس المملوء بالدجاج والديكة يرمز في هذه القصة إلى المجتمع الإيراني الذي فيه «همه گرسنه شان بود. همه با هم بيگانه بودند همه جا گند بود. همه چشم به راه بودند»
(الجميع كان جائعاً والجميع كان يحس بالغربة، وكل شيء كان سيئاً، والجميع كان مترقباً..)   
القفس نهاية الحرية. أما في قصة أخرى من المجموعة الثانية، يصف الكاتب "اَنترى" بأنه يحلم طوال حياته بأمنية واحدة فقط، وهي التخلص من قبضة صاحبه العنيف والقاسي. لكن حين يموت يوماً هذا القاسي، لا يدري الحيوان ماذا يفعل. فهو أصبح حراً طليقاً لكن لا يعرف كيف يستفيد من حريته هذه.
  صادق چوبك كاتب متشائم، فأبطاله ليسوا سيئي الحظ وعاجزين بسبب الظلم الاجتماعي، لكن سبب ذلك هو مصيرهم الفاسد. وهذا بالضبط ما يميز چوبك عن هدايت الذي يعتبر أن الإنسان في ذاته موجود على يعرف القبح. إضافة إلى هذا فشخصيات چوبك هي بدون استثناء أفراد غير متوازنين وعصاة وأسرى لغرائزهم.
أبطال چوبك في الغالب أشخاص تعساء ومحرومون، رغم أن من بينهم أحياناً موظفو الدولة والفنانون والمثقفون، لكن الأكثرية لصوص ومهربون وسماسرة..فهؤلاء أشخاص عنيفون وعديمو الاحساس، ويكذبون على بعضهم البعض ويفكرون في محض منفعتهم الخاصة. عالم چوبك مظلم وقبيح وعامر بالخبث.
 چوبك له ارتباط كبير بالحيوانات، لا أحد من الكتاب الإيرانيين وحتى الشرقيين استعمل الحيوات والطيور في أعماله إلى هذا الحد. قصص  «قفس»،و «انتري كه لوطيش مرده بود»، و«عدل»، و«همراه» و«مردي در قفس» أمثلة على ذلك.
  لغة چوبك في القصص التي تأثر فيها بهدايت، مفعمة بالمصطلحات والعبارات والأمثال العامية الجارية على ألسن طبقات اجتماعية وضيعة. أما لغته في الآثار الأخرى التي تأثر فيها بالكتاب الأمريكيين بسيطة وموجزة. يظهر چوبك مهارة كبيرة في تصوير الفضاء والشخصيات خاصة في قصصه الأولى. أفضل مثال نذكره في هذا المقام قصة «چرا دريا طوفاني شده بود؟» التي لا تعتبر رائعة چوبك الوحيدة فحسب بل واحدة من أحسن القصص الفارسية. تصوير الفضاءات ووصف الشخصيات في هذا العمل يتميز بالحياة وكأن القارئ وهو يطالع ذلك يتفرج على فيلم سينمائي.
 بالرغم من أن قوة إبداع صادق چوبك في قصصه الأخيرة عرفت ضعفاً وافتقدت إلى الإنسجام، لكن يبقى – بسبب مجموعتيه الأولتين – قصّاصاً كبيراً في تاريخ الأدب القصصي الإيراني.                       
 جلال آل أحمد من بين الكتَّاب الذين نشروا أول آثارهم في العقد الثاني من هذا القرن. أول مجموعة قصصية لـجلال آل أحمد "ديد و بازديد" (1945) وبشَّرت بمقدم كاتب كان في أول عهده متأثراً بهدايت، لكنه سرعان ما شق طريقه وحصل على استقلاله الفني.
 يمكن تقسيم الأعمال القصصية لـجلال آل أحمد إلى قسمين : ففي قصصه التي ألفها قبل سنة 1953 يوجه سهام نقده نحو الوضع الاجتماعي الإيراني والتعصت المذهبي الذي طغى على عدد من مواطنيه. لكن بعد سنة 1953 ألف آل أحمد آثاراً يبدو أن مواضيعها الاجتماعية لم تختلف كثيراً عن آثاره السابقة، لكن يلاحظ فيها فرقاً مهماً يتمثّل في التوجه إلى المذهب والتقاليد القديمة. وقد نبع توجه آل أحمد هذا الذي كان يشكل أساس فكره الاجتماعي وفعالياته الأدبية وخاصة بعد عقد الأربعينيات، من اعتقاده الراسخ بأن تأثر الكتّاب بدون قيد أو شرط بأفكار وأساليب الحياة الغربية هو السبب وراء اندثار الثقافة القومية والمحلية الإيرانية.
 نشر جلال آل أحمد بين سنة 1945 و1953 إضافة إلى مجموعة "ديد و بازديد" ثلاث مجموعات قصصية أخرى، وهي على التوالي : "از رنجى كه مى بريم" و"سه تار" و"زن زيادى". وينصبُّ موضوع أكثر هذه القصص على وصف حياة البسطاء من الناس والمحرومين الذين وقعوا ضحايا للظروف الاجتماعية غير المواتية، لكن هؤلاء يتحلون بصفة أخرى وهي استسلامهم لهذه الظروف وإيمانهم بأن الهزيمة هي مصيرهم المحتوم. نلمس في قصص هذه الفترة جمود الفكر المذهبي وتفشي الفقر والجهل. وخير مثال على ذلك يبرز في قصتي "سه تار" و«بچه مردم».
لا تعود شهرة جلال آل أحمد إلى قصصه الأولى، فقلَّما نعثر بينها على نماذج جيدة، إنما اشتهر بروايته القصيرة "مدير مدرسه" (1958) وبآثار أخرى جُمعت في مجموعة «پنج داستان» سنة 1350ش. فإذا كان نثر آل أحمد في قصصه الأولى يشبه إلى حد كبير نثر صحفي محترف و ذلك بسبب عدم أخذه بمبادئ الكتابة، فإنه يختار الآن لبيان أفكاره لغةً تختلف كثيراً عن اللغة السابقة. هذا النثر بيس هادئاً و ثقيلاً و رتيباً، لكنه نثر «تلگرافي، حساس، دقيق، خشن، صريح و صميمي است» (تلغرافي و حساس و دقيق و خشن و صريح و حميمي) كما صرحت بذلك سيمين دانشور. هو نثرٌ منفعل و غير ملتزم و مفعم بالإثارة و إلى حد ما مقترن بالطنز. لذلك يمكننا الجزم بأن جزء كبيراً من تأثير آل أحمد في الأدب القصصي الإيراني المعاصر مرهون بلغته الخاصة، اللغة التي تشبه كثيراً المحادثة أو الحوار. لكن خطأ آل أحمد يكمن في استخدامه لهذه اللغة في كل المواضع، و لا يفرق في هذا المجال بين المقالة و الرحلة و القصة. و مع ذلك فإنه أبدع قصصاً قيمة. و أحدها "جشن فرخنده".
  ألف ابراهيم گلستان أول قصصه خلال سنوات 1326 و 1327ش، و نشرها سنة بعد ذلك في مجموعة سمّاها "آذر، ماه آخر پاييز". موضوع أكثر هذه القصص الإستياء من الفعاليات السياسية. يشكل المثقفون غاليبة الشخصيات الأصلية في هذه الآثار، و هو مضطرون للتخلي عن آمالهم لتغيير النظام الموجود و خلق نظام جديد. لعل الكلام الذي ذكره بطل قصة "ميان ديروز و امروز" يبيِّن العوالم الباطنية لأكثر شخصيات گلستان في آثاره الأولى : "...و اكنون دريغى در جانش دميد كه كاش از اوّل پايش به ميان كشيده نشده بود" (...و الآن نُفخ أسف في روحه أن ليته لم يتورط منذ البداية).
تسمى المجموعة الثانية لـإبراهيم گلستان "شكار سايه" (1334ش) و تضم قصصاً ألفها القاص بين سنوات 1328 و 1331ش. مضمون أكثر هذه الأعمال هوكذلك وصف الإضظرابات الداخلية للأبطال، في هذه الفترة التي تكثر المضامين التي تصور التحولات الاجتماعية الكبيرة في آثار أغلب الكتّاب، نجد قصص گلستان تعالج الشخصيات المهزوزة و المترددة.
هناك أثر جد متميز بين آثار الكاتب الأولى و هو "در خم راه". رغم أن مضمونه لا يتفاوت عن مضمون الآثار الأخرى في هذه المرحلة، لكن فضاءه فضاءٌ مغاير. بالإضافة إلى ذلك يتمتع ببناء محكم و لغة حيوية متحركة و طريقة بيان النوسان الداخلي للأبطال يظفي عليها شخصية واقعية و هذا الأمر قلّما نشهده في آثار گلستان الأخرى.

  يطغى كهزاد الذي عانى كثيراً من جور أربابه، و يلجأ إلى الجبل، و والده لا يوافقه في هذا العمل، هذا الأب الذي يرى تصرف ابنه دون فائدة و غير متعقل، يدعوه دوماً إلى الرجوع. لكن كهزاد لا يرجع عن قراره و يبقى و لا يعود. لم يعد مستعداً لتحمل التحقير، لكن العجيب في الأمر أنه حين يقع أبوه في قبضة المأمورين و يخرج هو من مخبئه تهتز روحه لكن دون أن يُقدم على شيء أو يقوم برد فعل، يتحمل كهزاد هذه المرة التحقير و يبقى في مكانه حتى يُقتل أبوه أمام أعينه على يد المأمورين.
[يتبع]